للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المأخذ على الطحاوي في قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأدوات)]

قال رحمه الله تعالى: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى].

هذا ما أشرت إليه سابقاً، فقد ذكرت في القاعدة السابقة أن هذه الألفاظ الأصل أنها مبتدعة وتترك ولا تستعمل، هذا الأصل فيها، لكن إذا اضطر المتكلم من أهل العلم إلى الكلام بها فليتكلم بالحق على جهة التفصيل، ولا يترك السامع أو القارئ في متاهة.

قال رحمه الله تعالى: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى].

يعني: بدل أن نقول: لا يحيط به شيء من مخلوقاته نقول: إنه عز وجل بكل شيء محيط.

وينتهي الإشكال، وبدل أن نقول: لا يحويه شيء من مخلوقاته، نقول لفظ الشرع، وهو أن الله عز وجل بكل شيء محيط، هذا قصده بالألفاظ الشرعية، فنعتصم بالألفاظ الشرعية فهي أولى وأبعد عن الشبهة والفتنة.

قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي، وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع؛ فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم.

ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن (سائر) بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، وهذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات لا جميعها؛ إذ (السائر) على (الغالب) أدل منه على الجميع، فيكون المعنى: أن الله تعالى غير محوي كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء تعالى الله عن ذلك، ولا يظن بالشيخ رحمه الله تعالى أنه ممن يقول: إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته أو أن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره.

وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه، فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجُهّال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا -كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم- يكون العرش فوقه ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم؛ فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة.

وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني: سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاد بعد روايته حديث النزول يقول: سئل أبو حنيفة؟ فقال: ينزل بلا كيف.

انتهى.

وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش، ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: محيط بكل شيء وفوقه إن شاء الله تعالى].

قولهم: (لا مباين ولا محايث)، المباين: المفاصل، يعني: المنفصل، والمحايث: الملاصق والمخالط.