للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجه إثبات الرؤية في قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)]

ثم جاء المعتزلة والجهمية بشبهة أخرى حول آية أخرى لبسوا بمعناها على الناس، وهي قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣]، فقالوا: (لا تدركه) بمعنى: لا تراه، وهذا يشمل الدنيا والآخرة، وفي معرض الرد على استدلالهم بهذه الآية ذكر الشارح جملة من الردود الجيدة التي نقلها عن أهل العلم.

قال رحمه الله تعالى: [وأما الآية الثانية: فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف وهو: أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية].

المقصود بالصفات الثبوتية الصفات التي تتضمن إثبات كمال، سواء كانت في سياق الإثبات أو في سياق النفي، فالنصوص التي وردت في تنزه الله عز وجل كلها تدل على صفات ثبوتية، مثل قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٣ - ٤]، وقوله عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥]، ونحوها من الآيات التي تنفي عن الله النقص، فإنها لا بد من أن تدل على صفات ثبوتية في المقابل، كما سيبين الشارح، فالمقصود بالصفات الثبوتية الصفات التي تدل على ثبوت الكمال، سواء كانت بلفظ الإثبات أو بلفظ النفي.

قال رحمه الله تعالى: [وأما العدم المحض فليس بكمال، فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً].

يريد بهذا أن يمهد للرد عليهم في قولهم بأن قول الله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] معناه: لا تراه.

يريد أن يمهد بهذه القواعد ليثبت أن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها؛ لأن قولهم: لا يرى تشبيه له بالعدم، تعالى الله عما يزعمون؛ فقولهم بأن الله لا يرى تشبيه له بالمعدوم؛ لأن الذي لا تمكن رؤيته هو المعدوم، أما المخلوق فتمكن رؤيته على أي وجه من الوجوه التي يقدر الله بها عباده على الرؤية، فكأنه يريد أن يقول لنفاة الرؤية: قولكم: إن معنى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]: (لا تراه) تشبيه له بالمعدوم؛ لأن الشيء الذي لا يرى أو لا تمكن رؤيته ولو بما يقدر الله به عباده على الرؤية هو المعدوم، وهو الذي يقبل الوصف السلبي المحض؛ لأنك إن نفيت عنه النفي المطلق قبل، وإن نفيت عنه الإيجاب قبل؛ لأنه لا يقبل الوصف، ومن هنا لا يقبل الرؤية، أما ما يقبل الوصف ويقبل التسمية ويقبل الكمال فلا بد من أن يقبل الرؤية.

قال رحمه الله تعالى: [وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.

ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإذاً: المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:٦١ - ٦٢] فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه].

يعني: لا يتمكن الرائي لأي مخلوق عظيم وكبير من أن يحيط بحدوده، فإذا كان هذا في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- فالله عز وجل أعلى وأعظم وأجل من أن تدركه الأبصار، أي: تحيط به على جهة الإدراك، كما قال أهل العلم وكما قال أهل اللغة: إن الإدراك معنىً زائد على الرؤية؛ لأنك قد ترى الشيء لكن لا تدركه، فقوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] لا يعني: لا تراه، إنما تراه ولكن لا تدركه، بل ربما يوحي معنى الآية -كما قال بعض أهل العلم- بأن قوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: أنها تراه، وإلا فلماذا نفى الإدراك؟! فلو تأملتم بحس لغوي لأدركتم فعلاً أن معنى الآية يُفهِم أن المؤمنين يرونه لكن لا يدركونه تعالى، فالله عز وجل تراه الأبصار ولكن لا تدركه، ول