قال رحمه الله تعالى: [فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة، بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ليعلم ويعتقد، ويعمل به ظاهراً وباطنا، فيكون قد تلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء، وإن كان العبد عاجزاً عن معرفة بعض ذلك أو العمل به؛ فلا ينهى عما عجز عنه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه، لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك، ويود أن يكون قائماً به، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه، بل يؤمن بالكتاب كله وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه من رواية أو رأي، أو يتبع ما ليس من عند الله اعتقادا أو عملا، كما قال تعالى:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:٤٢]].
كأنه يشير إلى الذين يقعون في الإعراض عن دين الله بسبب الجهل أو التقصير، فهؤلاء جاء إعراضهم عن دين الله بسبب العجز عن المعرفة، والعجز عن القراءة، وقلة الفقه، وهذه إشارة إلى أن الذين يعرضون عن دين الله أو يلفقون في دين الله منهم من لا يتعمد الإعراض عن دين الله، لكنه أتي من قبل تقصيره في فهم الدين وفي إدراك مراد الله، أو عجزه عن العمل بالشرع لأي سبب من الأسباب، فالمسلم قد يعجز أو يضعف أو يجبن أحياناً لأي سبب من الأسباب عن العمل بشرع الله، ولا يسعى إلى أن يقوى الدين وأن يعتز بالإسلام، فهذا يعتبر من المقصرين أو العاجزين، وإلا فالأصل في المسلم إذا أسلم لله سبحانه وتعالى أن يسلم لدينه وشرعه، وألا يتعلل بالعجز وأن لا يتعلل بعلل أخرى؛ لأنه قد لا يدرك علل التشريع، بل الغالب أن البشر لا يدركون جميع العلل في التشريع؛ فلذلك قام الدين على التسليم لله تعالى والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم ابتداءً.
ثم بعد ذلك العمل، لا بد من أن ينتج عن التسليم العمل بشرع الله تعالى، فمن اختل عمله لا بد من أن ينقص تسليمه، ومن اختل تسليمه لا بد من أن يختل عمله، والأمران مترابطان، فلا فرق بين العقيدة والشريعة، العقيدة التي هي التسليم والشريعة التي هي العمل، ومن فرق بينهما تفريقاً اعتقادياً ربما يخرج من الملة.
إذاً: سبب هذا العجز هو الخلل في التسليم ابتداءً، فليسلم لله تعالى وليثق بدين الله وبنصر الله، ومن كان هذا حاله لا يمكن أن يقع في الإخلال بدين الله تعالى بدعوى العجز؛ لأن من اتكل على الله فإن الله يسدده ويرشده ويهديه.
فالتسليم لله تعالى هو المقصود، التسليم لله تعالى بالعبادة والطاعة والامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم بحبه وتصديقه واتباع هديه، هذا هو التسليم؛ لأن من مقتضى التسليم التصديق، ومن مقتضى التصديق الاتباع؛ لأن من سلم لله تعالى وسلم لرسوله صلى الله عليه وسلم سلم بالكتاب والسنة، ومن سلم بالكتاب والسنة علم أن الكتاب والسنة يتضمنان الأمر والنهي، فإذا ادعى إنسان أنه مسلم ولم يتبع الأمر اختل تسليمه، ومن ادعى أنه يسلم لله تعالى ولم ينته عما نهى الله عنه اختل تسليمه، ومن ادعى أنه مصدق لله تعالى ولرسوله وبكمال الدين ثم ابتدع انتقض تسليمه؛ إذ كيف تقول بأنك سلمت لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ثم تأتي بدين لم ينزله الله، فمن مقتضى التسليم ترك الابتداع.