[وجوب طاعة ولي الأمر في مواضع الاجتهاد]
قال رحمه الله تعالى: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية].
هذه قاعدة عظيمة، ومن القواعد التي يحتاجها المسلمون في كل مكان وفي كل زمان، ولو امتثل المسلمون هذه القاعدة لانحل كثير من الخلافات بينهم، ولما وجد كثير مما يوجب النزاعات وشحناء القلوب والفرقة واضطراب الأمور عند المسلمين فيما بينهم، لا سيما في وقتنا هذا، حيث نرى بعض مظاهر المخالفة لهذه القاعدة قد تؤدي أحياناً بمجتمعنا وبكثير من المجتمعات الإسلامية إلى أمور مفاسدها تضر بالإسلام والمسلمين، وتضر بالأمة في مجموعها فضلاً عن ضررها اللاحق بالمتنازعين.
فكثيراً ما نجد بعض المجتهدين في الحسبة أو غيرها قد يصدر عمن يعد مسئولاً أو يعد مرجعاً لهم ما لا يعجبهم من الأحكام أو القرارات، فتجد الواحد منهم متذمراً، وربما يحتال بكل حيلة للخروج من هذه الأوامر، وربما يعلن المعارضة ويفت في عضد من حوله ممن يعملون لمصلحة الإسلام والمسلمين.
أقول: إن هذه الأمور موجودة -مع الأسف- عند بعض المنتسبين إلى الخير، فقد لا يعجبهم رأي يصدر عن شيخ لهم أو عن مسئول، أو عن مرجع، فلا يعملون بهذه القاعدة، بل يعملون بالعكس، فربما ينكرون الإشكالات بدعوى أن هذه أمور تؤدي إلى مفاسد، وربما تفسر كثير من الأعمال والقرارات وغيرها بتفسيرات فيها حكم على القلوب ونحو ذلك.
فلنتأمل هذه القاعدة، وأرى أنه يجب علينا جميعاً أن نمتثلها، وأن نعود أبناء المسلمين على مثل هذا الأمر فإن مصلحة الجماعة مقدمة، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، فيجب أن نتعود ونعود من حولنا على مسألة الطاعة لمن اجتهد في موارد الاجتهاد.
فالشارح يقول بأن إمام الصلاة، وأمير الحرب، وعامل الصدقة، ويقاس عليهم كل مسئول تحت إدارته من يعمل من المسلمين يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف خير من الفرقة، وهذه القاعدة العظيمة كثيراً ما تحدث النزاعات بين المسلمين بسبب إهمالها أو تركها أو جهلها، فيحسن التركيز على مثل هذه القاعدة، خاصة في وقتنا الذي كثرت فيه الآراء والاجتهادات والنزاعات بين المسلمين، وكثرت الفرقة والاختلاف والنزاع في مثل هذه الأمور التي ينبغي أن يتعود فيها المسلم على الصبر، واحتمال الرأي المرجوح عنده ما دام صادراً ممن له ولاية عليه، بل يجب ما هو أكثر من ذلك؛ لأن المسلم إذا رأى أن كلامه يخالف هذه القاعدة -حتى لو لم يعمل ما يناقضه- فيجب عليه أن يسكت للمصلحة ودرء المفسدة.
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض.
ويروى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لـ أبي يوسف: أصليت خلفه؟! قال: سبحان الله! أمير المؤمنين! يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع].
يظهر أن أبا يوسف يرى عدم جواز الصلاة بذلك، ويرى وجوب الوضوء بعد الاحتجام، ومع ذلك صلى ولم يعد الصلاة، ولما قيل له ذلك قال هذا الكلام العظيم، الذي هو قاعدة: سبحان الله! أمير المؤمنين! يعني: أترك الصلاة خلف أمير المؤمنين لمجرد مخالفة في أمر اجتهادي.
[وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه، لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظوراًً اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد.