للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات صفة العلم الكامل لله جل جلاله]

قال رحمه الله تعالى: [قوله: (خلق الخلق بعلمه): (خلق) أي: أوجد وأنشأ وأبدع، ويأتي (خلق) أيضاً بمعنى: قدر.

والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق.

وقوله: (بعلمه) في محل نصب على الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩]، {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:٦٠]، وفي ذلك رد على المعتزلة.

قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وجليسه في كتاب (الحيدة) الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فقال بشر: أقول: لا يجهل، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم تقريراً له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فقال الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح؛ فإن قولي: هذه الأسطوانة لا تجهل ليس هو إثبات العلم لها، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل، فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه].

هذه الفلسفة عند المعتزلة ناتجة عن قولهم بأن الله تعالى عليم بلا علم، فلذلك يهربون من إثبات صفة العلم بكل وسيلة، حتى ولو بتكلف وتمحل، كما في مثل هذه المناظرة التي جرت بين الكناني وبشر المريسي، وكتاب الحيدة قد أورد بعض المتأخرين حوله إشكالاً في ثبوته بنصه عن الكناني، فالكتاب الموجود المطبوع الآن قد لا يكون بنصه هو كتاب الكناني، لكن المناظرة جرت وفحواها موجودة في الكتاب، وإنما صياغة الكتاب قد تكون دخلتها الصناعة؛ لأنه في بعض القضايا التي وردت في الكتاب ما لم يكن معهوداً في ذلك الزمن، أي: في زمن الكناني، وهذه هي الشبهة التي أوردت على الحيدة، ومع ذلك فإن المناظرة واردة فعلاً والحيدة صحيحة، أي: حيدة المريسي، بمعنى: نكوصه عن الجواب ووقوفه وانقطاعه.

ثم إن أكثر قضايا المناظرة نقلت عن الأئمة العلماء، سواء عن طريق كتاب الحيدة أو عن غيره، وإنما يبقى الإشكال في الصياغة، بمعنى أنه قد يكون دخل في صياغة الكتاب بعض الاجتهادات من النساخ أو غيرهم.