[الجمع بين قوله تعالى:(كل من عند الله) وقوله: (فمن نفسك)]
قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، وبين قوله:((فَمِنْ نَفْسِكَ))؟ قيل: قوله ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)): الخصب والجدب والنصر والهزيمة؛ كلها من عند الله، وقوله:((فَمِنْ نَفْسِكَ)): أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك].
خلاصة هذا الجمع أن قوله عز وجل:((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) يعني: من حيث العلم والتقدير، كل شيء يحدث -ومنه أفعال العباد خيرها وشرها- بعلم الله وتقديره ومشيئته، وقوله:((فَمِنْ نَفْسِكَ)) ونحوه مما جاء في الآيات يعني: من حيث التسبب، فالله عز وجل جعل لأفعال العباد أسباباً، وأفعال العباد التي فيها الشر والضرر عليهم تسببوا في وقوعها على أنفسهم، وكون الله عز وجل قدرها لا يعني ذلك ألا يكون العبد متسبباً؛ لأن الله عز وجل أعطى العباد المكلفين الحرية والقدرة والاختيار، وبين لهم طريق الخير وأقدرهم عليه وأمرهم به، وبين لهم طريق الشر وأقدرهم عليه ونهاهم عنه، فإذا فعلوا الشر فإن فعلهم له سبب في العقوبة، والفعل والعقوبة كلاهما مقدر من الله عز وجل؛ لأنه كل من عند الله.
إذاً: كل من عند الله من حيث العلم والتقدير والمشيئة العامة والإرادة العامة، ويقال للإنسان إذا أصابه ضر بسبب أعماله وسيئاته: فمن نفسك، أي: من حيث التسبب، أنت سببه، فهذا عقوبة لك، وهذا معلوم عند التأمل، بل هو واضح، وهو الذي تقتضيه الفطرة، ومن حاد عن هذا الفهم فلابد أن يختل فهمه ويقع في إشكال.
قال رحمه الله تعالى: [وقوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))، أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى:٣٠]، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ:((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) وأنا كتبتها عليك.
والمراد بالحسنة هنا: النعمة، وبالسيئة: البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد].
هذا من تفسير الشيء بجزئه، يعني: كثيراً ما يرد عن السلف تفسير النصوص بأسباب نزولها أو بأحوال خاصة، ولا يعني ذلك أنهم ينكرون عموم اللفظ، بل كانت مداركهم ومفاهيمهم وإدراكهم للغة تغني عن التفصيل، فكان السلف في ذلك الوقت المبكر في عهد الصحابة ومن بعدهم إذا جاء تفسيرهم هكذا -مثل تفسير السيئة بما حصل يوم أحد- فإنهم لا يتطرق إلى أفهامهم أن المقصود حصر معنى الآية على السيئة يوم أحد، إنما الإشارة إلى المثل والسبب، أو تفسير الشيء بجزئه، وهذا كثير جداً في عهد الصحابة والتابعين الأوائل قبل أن يتكلف الناس ويتعمقوا في الكلام ويتوسعوا، وتضعف لغتهم وتضعف مفاهيمهم، ولذلك يظن كثير من الناس أن تفسير الصحابة وتفسير التابعين ليس بشامل؛ لأنه يأتي بمثل هذه الجزئيات، والصحيح أنه أشمل؛ لأنه يأتي بالمثل الذي يدل على القاعدة، ويأتي بالجزء الذي يدل على الكل، ويأتي بالمثال الذي يدل على الأصل، وهذا أشمل في الفهم، لكن لما ضعفت العربية وكثر تكلف الناس، وتعودوا على العنصرة والتعمق وتشقيق الكلام اضطر العلماء إلى التنبيه على عمومات الألفاظ في النصوص.
قال رحمه الله تعالى:[والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة].