[الرد على احتجاج الحنفية بأن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة]
قال رحمه الله تعالى: [وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة؛ فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان؛ فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:٢]].
هنا فسر المؤمنين بمن إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وهذا يتضمن المعنيين، فوجل القلب هو نوع من اليقين والإيمان، ثم إنه نوع من العمل؛ لأن الوجل لابد أن يكون له لوازم.
قال رحمه الله تعالى: [{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥]، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:٨١]].
هنا أفرد الإيمان، ولابد أن يستلزم أعمالاً، أي: أن هذه المعاني لا تتحقق للمؤمنين إلا إذا كانوا يعملون بمقتضى الدين.
قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، (لا تؤمنوا حتى تحابوا)، (من غشنا فليس منا)، (من حمل علينا السلاح فليس منا)].
في الدليل الأول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) نفى الإيمان عن الفاعل بعمل يخل بالإيمان، وهذا دليل على أن العمل من الإيمان، وكذلك قوله: (حتى تحابوا) فالتحاب هو عمل، وهو شرط للإيمان، بل هو أيضاً معنى من معاني الإيمان، وكذلك قوله: (من غشنا)، (من حمل السلاح)، نفى عنه ذلك بالعمل الذي هو الغش وحمل السلاح، وهذه كلها أعمال.
قال رحمه الله تعالى: [وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي: فليس مثلنا! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! وأما إذا عطف عليه العمل الصالح فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب].
يقصد هنا عطف العمل الصالح على الإيمان، فإنه غايره من بعض الوجوه ووافقه في الأصل، يقول: إن كثيراً من ألفاظ اللغة العربية التي فيها ترادف إذا عطف أحدها على الآخر بقي الاشتراك على أصله، ودل العطف على المغايرة من بعض الوجوه، وهذه قاعدة عند العرب لا تتخلف، وهي قاعدة معروفة معلومة، وتستقيم في المصطلحات الشرعية أكثر من غيرها، وهو أنه إذا وجدنا لفظين مترادفين فإذا أطلق أحدهما منفرداً دل على معنى الآخر، وإذا أطلقا جميعاً بقي الاشتراك بينهما ودل العطف على التغاير من بعض الوجوه.
فالعطف فعلاً يدل على المغايرة، لكن في بعض الوجوه، ولا يعني وجود المغايرة من بعض الوجوه أن الترادف انعدم أو زال.
ومن ذلك: الفقير والمسكين، فإذا أطلقنا كلمة (فقير) دلت على معنى المسكين وحدها بدون أن ترد معها الأخرى.
وكذلك إذا قلنا: (مسكين) دل على معنى الفقير، لكن إذا اجتمعتا فقلنا: الفقير والمسكين صار بينهما شيء من الفروق، ومع ذلك فوجوه الاشتراك بينهما موجودة، ومنها الحاجة ونحو ذلك من الأمور.
وكذلك الإيمان والعمل الصالح؛ فإذا عطف العمل الصالح على الإيمان بقي الاشتراك موجوداً في أن العمل الصالح جزء من الإيمان والإيمان يشمل العمل الصالح، لكن العطف يدل على التغاير الجزئي الذي جاء من أجله سياق الكلام.