للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أصناف المرجئة في كلام السلف]

قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام، ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي، وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعاً].

هذا الكلام أيضاً وما تبعه من تعليق من المحقق في الهامش فيه نوع إيهام، فقوله: [أن يصير ذلك ذريعةً إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء] هذا ليس على إطلاقه، كما أن قوله بعد ذلك: [قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وهذا باطل قطعاً] هو حق، لكن ليس هذا قول المرجئة الذين يعنيهم السلف، فالسلف يطلقون المرجئة في الإطلاق العام المشهور ويقصدون بهم مرجئة الفقهاء من الأحناف والأشاعرة والماتريدية، وأغلب الذم الوارد وما ورد في نصوص وآثار السلف إنما هو في الرد على هذا النوع من المرجئة، وهم الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، أو: التصديق والقول فقط، ومن ثم لا يجعلون الأعمال من الإيمان، ولا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه، ولا يستثنون في الإيمان، فأصحاب هذه الأصول الأربعة أو الخمسة هم المرجئة عند السلف.

أما الذين أشار إليهم الشارح هنا فسماهم أهل الإرجاء فيسميهم السلف الجهمية، وهم الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، يعني: بإطلاق، هؤلاء هم مرجئة الجهمية، وهم المقصودون بالإطلاق في عبارات من بعد السلف.

فالسلف كانوا يطلقون على الجهمية مرجئة، لكن هذا قليل وبحسب المناسبة، أما أكثر الذين رد عليهم السلف من المرجئة فهم مرجئة الفقهاء، وأكثر كلام السلف في المرجئة يعنون به مرجئة الفقهاء، فإذا أطلقت كلمة (المرجئة) عند العلماء فإنما يقصدون بها مرجئة الفقهاء، أما مرجئة الجهمية فإطلاقهم لها عليهم قليل، ولا يمكن أن يذكر إلا مع ذكر مقولات الجهمية أو بوصف قولهم الشنيع، هذا الإرجاء الغالي، والإرجاء عند الجهمية ناتج عن الجبر، وهو القول بأن الإنسان مجبور على أفعاله، فنتج عن ذلك الإرجاء ضرورة، يعني: الجهمية يلزمهم ذلك ولو لم يقولوا به؛ لأن من قال بأن الإنسان مجبورٍ على أفعاله وليس له أي اختيار ولا حرية ولا قدرة، فمن الضروري أن يقول بأن الإنسان لا يحاسب على أي ذنب؛ لأن المجبور على الذنب لا ذنب له.

إذاً: فالصحيح أن الذين أشار الشارح إليهم هنا هم غلاة المرجئة، وهم الجهمية.

وكذلك المحقق همش بوهم أكثر وقال: [الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية] والصواب أن هذا إرجاء يخرج به صاحبه من الملة، وليس مجرد ذنب؛ لأن قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية، يدخلون فيه الشرك الأكبر، والبدع المغلظة، والكفريات والجرائم وكل شيء، وهذا لا يصح، وهذا قول غلاة المرجئة الذين هم الجهمية، وليس الإرجاء المذموم هو هذا فقط، بل الإرجاء المذموم هو قول مرجئة الفقهاء، وكذلك قول الجهمية من باب أولى.

ثم قوله: [أما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً ولا يتبرأ منهم، فهذا لا يعد بدعة] بل هذا هو البدعة بعينها إلا إذا فصل، فهذا فيه إجمال، فالصحيح أن من قال بإرجاء عصاة المؤمنين يوم القيامة إلى الله عز وجل فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، فقد وافق قول أهل السنة والجماعة، أما من قال بالإرجاء المطلق -وهو نتيجة قول المرجئة- فإن هذا بدعة، وقوله: لا ينزلهم جنة ولا ناراً، كذلك الكلام مجمل.

فقول المحقق: [الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية] هذا ليس على الإطلاق، فهو مذموم فعلاً، لكنه إرجاء غلاة المرجئة وهم الجهمية، ومن الإرجاء المذموم عدم إدخال العمل في مسمى الإيمان، وعدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه، وعدم الاستثناء في الإيمان إلى آخره.

وقوله: [وأما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً] كلام مجمل، فإن قصد بهذا عصاة المؤمنين الذين يموتون دون توبة فصحيح، فهؤلاء أمرهم إلى الله عز وجل.

وقوله أيضاً: [لا ينزلهم جنة ولا ناراً] هذا أيضاً أمر محتمل، أما مصيرهم في النهاية فلا شك أنه إلى الجنة، حتى أولئك الذين يعذبون من أهل الكبائر من عصاة المؤمنين إذا لم يغفر الله لهم، فإنهم قد يعذبون عذاباً على قدر أعمالهم ثم يخرجون بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو بشفاعة غيره.

وقوله: [لا يتبرأ منهم] هذا كلام مجمل أيضاً، فما معنى التبرؤ؟! فالتبرؤ الكامل لا يجوز، لكن التبرؤ بقدر ما فيه من فسق وعصيان أو بدعة هذا أمر ضروري، ولذلك قرر فعلاً منهج المرجئة، ولم يقرر مذهب أهل السنة في هذه الكلمة، فقوله: [ولا يتبرأ منهم] ليس على إطلاقه، فالتبرؤ فيه تفصيل، فلا يتبرأ منهم تبرؤاً كاملاً؛ لأن عصاة المؤمنين لهم من الولاية بقدر إيمانهم، لكن أيضاً يتبرأ