للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان حصول الغنية بطريقة القرآن عن طريقة المتكلمين في إثبات انتهاء المخلوقات إلى موجدها جل جلاله]

قال رحمه الله تعالى: [وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية؛ وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:٣٣].

ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة الطويلة؛ فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى].

الملحد الذي ينكر وجود الخالق أو ينكر أمراً من الأمور القطعية التي جاء بها الوحي قد يحتاج إلى المقدمات المنطقية والعقلية من أجل أن يقر إذا أراد الله له الهداية، أما المسلم فلا يتأتى منه أن يحتاج إلى المقدمات؛ لأنه مسلم ابتداء، والإسلام معناه الخضوع والتسليم لله سبحانه وتعالى بالتصديق أولاً، ثم بالالتزام والامتثال ثانياً، فإذا كان كذلك فلا يتأتى لمسلم أن يظن أنه يحتاج إلى مقدمات طويلة منطقية تقوي ثقته بوجود الله، أما في الأمور الأخرى فقد يحتاج المسلم إلى أن يعرف بعض العلل وبعض الحكم ليزيد إيماناً.

أما فيما يتعلق بوجود الله فالمسلم مُسلِّم بفطرته وعقله بوجود الله، ولا يحتاج إلى الأدلة المنطقية المعقدة، وإن لجأ إليها فلا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لديه مما يسميه أدلة، كل مسلم يلجأ إلى الأدلة العقلية والمنطقية المعقدة في إثبات وجود الله فإنه لا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لجأ إليه من الأدلة والبراهين، وكلما سَلَّم بفطرته وعقله سلم إيمانه ووقر في قلبه الإيمان.

أما غير المسلم أو الشاك أو المضطرب فقد يحتاج إلى الأدلة المعقدة بقدر مستوى تفكيره، وقد يهتدي وقد لا يهتدي، فإنما الهداية بيد الله؛ فإن البراهين لا تغني عمن ختم الله على قلبه.

قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمقدمات وإن كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية].

استعمال كلمة (الصانع) -كما أسلفنا في درس سابق- إنما هو مجاراة المتكلمين من باب الرد عليهم أو إلزامهم بألفاظهم وقواعدهم، وإلا فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأن كلمة (الخالق) أصدق وأقرب، فهي من ألفاظ الشرف وهي أقرب إلى الفطرة والعقل السليم، فالخالق هو المبدع الموجد، وأما الصانع فلفظ مشترك بين الخالق والمخلوق، وإن كانت في حق الخالق إذا أطلقت عليه تليق بجلاله سبحانه، لكنها من الألفاظ التي لم ترد في الشرع، بمعنى أن من أسماء الله الصانع، وإن وردت بمعنى فعل الله سبحانه وتعالى، لكنها ليست من أسماء الله، فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأنها من الألفاظ الخاصة بالله سبحانه وتعالى.