للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مذهب الجهمية وأهل الكلام في صفتي الرضا والغضب]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد نفى الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه من كلامه، ورضاه وغضبه، وحبه وبغضه، وأسفه ونحوه ذلك، وقالوا: إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه، ليس هو في نفسه متصفاً بشيء من ذلك.

وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه فقالوا: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلاً، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت، ولا يغضب في وقت دون وقت.

كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)].

قد يفهم بعض الناس أن الشيخ رحمه الله أتى بالحديث استدلالاً لقول الكلابية وقول الجهمية ومن سلك سبيلهم، بينما هو يقصد أنهم اعترضوا على مثل ما ورد في هذا الحديث، فساق الحديث ليثبت مذهب السلف.

وقبل أن ندخل في الكلام عما في الحديث من دلالة، أحب أن أنبه إلى بعض الأمور التي مرت، وهي نفي الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه من كلامه ورضاه وغضبه، فـ الجهم بن صفوان نفى جميع الأسماء والصفات، حيث زعم أن المقصود بالأسماء والصفات هي آثار أفعال الله عز وجل في خلقه، فنفيه الأسماء والصفات والأفعال لله سبحانه بحجة أن ذلك يفهم منه التشبيه.

والجهم على مذهب غلاة الفلاسفة، بل على مذهب الفلاسفة؛ فالفلاسفة كلهم غلاة، وما أعرف أحداً من الفلاسفة يسمى معتدلاً.

والفلاسفة يجردون الله عز وجل من وجود الذات أصلاً، فيتصورون وجود الله عز وجل -كما يسميه أهل الفكرة- وجوداً ذهنياً فقط، فمن هنا أنكروا الأسماء والصفات التي جاء بها الأنبياء، وجهم تعلق بمذهب الفلاسفة حينما حاورهم وحاور الصفاتية، وهذا يدل على خطورة تعلق المسلم بمحاورة المخالفين دون أن يتسلح بالعلم، لا ينفعه ذكاؤه، بل أكثر ما يهلك الإنسان بسبب ذكائه إذا لم يتسلح بالعلم الشرعي، وأغلب الذين يقعون في الشبهات والتأويل والإلحاد بأسماء الله وصفاته وأفعاله وفي قضايا الدين هم الأذكياء، تجدهم يحاورون غير المسلمين أو أهل الأهواء المخالفين دون تسلح بالعلم الشرعي، والجهم كما هو معروف لم يعرف بعلمه كما ذكر السلف، فلما حاور الصفاتية وحاور الفلاسفة أوقعوا في ذهنه مسألة: أنه لا يمكن أن يكون لله عز وجل وجود ذاتي، فمن هنا استنكر الأسماء والصفات، فلما وجد النصوص الشرعية في الكتاب والسنة قال: إن هذه النصوص تعني آثار ما يفعله الله عز وجل في خلقه.

والمعتزلة سارت على منهج الجهمية، لكنهم أثبتوا الأسماء دون الصفات.

أما الصفاتية فالمقصود بهم الذين يثبتون الصفات، ويدخل فيهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية والسالمية والكرامية ومن سلك سبيلهم، وبعض أهل العلم يدخل فيهم المعتزلة.

وأهل السنة من باب أولى أن يثبتوا الصفات.

إذاً: فالمقصود بالصفاتية هم من أثبتوا الصفات، سواء أهل السنة أو غيرهم، فمن أثبت شيئاً من الصفات أو كل الصفات يسمون صفاتية.

وأول الصفاتية الذين تأثروا بالجهمية والمعتزلة وادعوا أنهم على مذهب السلف الكلابية، فإنهم يثبتون جميع الصفات ما عدا الصفات الفعلية، فزعموا أن الصفات الفعلية لا تثبت على حقيقتها، إنما لا بد أن تؤول، فإنهم قالوا بأن الصفات الفعلية ليس لها علاقة بالمشيئة، ولا ترتبط بالمشيئة، وزعموا أنها تفسر بآثار خلق الله في العباد، ولا تفسر بأنها صفات لله ثابتة له.

وهذا الاتجاه هو الذي مشى عليه الأشاعرة والماتريدية، هذا قبل أن يتوسعوا ويأخذوا بمذهب الجهمية في إنكار الصفات الذاتية، فالأشاعرة والماتريدية في أقوالهم المتأخرة خرجوا عن مذهب ابن كلاب الذي كان عليه، ووقعوا في تأويل جميع الصفات ما عدا سبع صفات.

أيضاً قوله: إن الصفاتية ومن سلك سبيلهم من النفاة قالوا: صفاته لازمه لذاته، قديمة أزلية، يعني: أنها غير مرتبطة بالمشيئة، قالوا: لا يتكلم الله عز وجل كما يشاء، ولا يغضب متى شاء، وإنما رضاه آثار ذلك في خلقه، وغضبه آثار ذلك في خلقه، فأولوا هذه الصفات.

والصفات الفعلية ثابتة لله عز وجل، كما في حديث الشفاعة.

قال رحمه الله تعالى: [كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)].

في هذا دلالة قاطعة على أن الله عز وجل يحدث منه الغضب، كما يليق بجلاله سبحانه، وأنه يغضب متى شاء إذا وجد للغضب سبب، وغضبه يثبت له سبحانه على ما يليق بجلاله من غير تشبيه، وليس غضب الخالق كغضب المخلوق؛ ولذلك قال: (غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) هذا دليل على أن غضبه عز وجل متعلق بمشيئته فيما قبله.

وقوله: (ولن يغضب بعده مثله) فيه دليل على أن الله عز وجل بعد هذا المقام يغضب كما يشاء، وأن غضبه متعلق بمشيئته سبحانه.

قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إ