[رد أهل السنة على المرجئة في احتجاجهم بزوال الإيمان المركب بزوال جزئه]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقالوا أيضاً: وهنا أصل آخر، وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!!.
ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، قال صلى الله عليه وسلم:(إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً، بخلاف العكس، وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلَّم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، فيزول عنه الكمال فقط].
يقصد بذلك أن الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وهم طائفة من الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص، هذا من جانب، ومن جانب آخر أيضاً هو قول المعتزلة والخوارج، ليس فقط قول طوائف بعض المرجئة، فالذين قالوا: إن كونه يلزم من زوال جزئه زواله كله هم بعض المرجئة، وهم أيضاً الخوارج والمعتزلة، والخوارج والمعتزلة هم عكس المرجئة في كثير من الأمور، ومع ذلك يلتقون في بعض المستلزمات وبعض الأقوال.
وهو هنا يريد أن يرد على الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وإنه إذا زال جزء منه زال كله، يريد أن يرد عليهم بأن هذا الكلام كلام مجمل، يقول: إذا قلتم: إن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه؛ فهذا لا يصح.
وقوله:[فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية] يقصد كل أفراد الإيمان، فهو يقول: إنه لا يصح أن الإيمان يزول كله بزوال الجزء، أما إذا أرادوا أن الإيمان إذا زال شيء منه لم يبق مجتمعاً فهذا صحيح، فنحن نعرف أن الإيمان بمجموعه إذا زال جزء منه لم يبق سليماً في الجملة، فيختل شيء منه بقدر خلل هذا العمل، ولا يبقى كاملاً أيضاً، فإنه ينقص بقدر نقص هذا العمل، لكن لا يصح أن نقول: إنه إذا اختل منه شيء أو زال جزؤه أو ذهب بعضه فقد ذهب مسمى الإيمان عن المؤمن أو زال كله، بمعنى أنه لا ينعدم بزوال جزء منه، بل يبقى أصله حتى ولو كثر النقص فيه، فلو افترضنا أن النقص في أكثر أجزاء الإيمان فإنه يبقى أصله، هذا جانب.
والجانب الآخر: أننا لو افترضنا أن النقص جاء من شيء عظيم في الدين -كارتكاب بعض الكبائر- فإنه مع ذلك قد يختل خللاً عظيماً، لكن يبقى أصله، وقد يرتفع معنى الإيمان عن المسلم في لحظة ما، لكنه مع ذلك لا ينفك عنه مسمى الإسلام ولا مسمى الإيمان، إنما قد يرتفع في تلك اللحظة التي حدث للمسلم فيها عارض، كأن يشك في شيء من الدين أو يضطرب اعتقاده أو يحصل له شيء من النزغات العظيمة التي تستوجب زوال الإيمان في لحظة ما، لكنه لا يلبث أن يعود، بل ربما يرتكب من الكبائر والفواحش العظام ما يمكن أن نقول: إنه بذلك لم يكن مؤمناً في تلك اللحظة التي حصل منه فيها ذلك الفعل، بمعنى أنه لا يستحق أن يكون ممن وفى بالإيمان، لكن يبقى أصل الإيمان ثابتاً.
فعلى هذا فإن قول الذين يقولون: إن الإيمان يزول كله بزوال جزئه لا يصح، وإذا كان قصدهم أنه يزول كماله فنعم، لكن هذا لا يسمى زوالاً، بل يسمى نقصاً، ويسمى تقصيراً، ويسمى خللاً، ويسمى عدم كمال إلى آخر ذلك من الألفاظ التي يعبر بها أهل العلم، والآن سيبدأ في الاستدلال على تقرير زيادة الإيمان أو نقصانه.