[ذكر بعض الأصول المتعلقة بالفتنة التي حصلت في خلافة علي رضي الله عنه]
من الأصول المهمة فيما يتعلق بالفتنة: أولاً: أن أكثر الصحابة لم يشاركوا في هذا الأمر؛ وذلك حين رأوا أن الأمر فتنة، فتأخروا، بخلاف ما تذكره روايات الرواة وأكثرهم من الشيعة من أن أغلب الصحابة وقعوا في النزاع، فالصحيح كما ذكر الأئمة المحققون أنه لم يشارك من الصحابة في القتال أكثر من ثلاثين، بل بعضهم قال: عشرة، يعني: الذين شاركوا في مسألة المداولة ومحاولة جمع المسلمين على رأي، فانضموا إما إلى علي وإما إلى معاوية.
ثانياً: أن الصحابة الذين شاركوا منهم من خرج أثناء القتال، خاصة الكبار كـ طلحة والزبير؛ فقد خرجا منها في أثنائها لما علما بأنها فتنة، وحين بلغهما الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده علي بن أبي طالب وذكره لهما.
ثالثاً: أن جميع من شارك في الفتنة ندموا بعد ذلك، حتى إن علي بن أبي طالب والزبير رضي الله عنهما حينما التقى كل واحد منهما الآخر تعانقا، حتى وقع سيفاهما على الأرض من شدة التأثر، وذهب علي إلى عائشة رضي الله عنها -وهي في جيش خصومه- فاعتذر منها، وكلمها بأدب، وخاطبها بأنها أمه، وقال: يا أماه، وهذا مما يدل على أن قلوبهم كانت صافية، بعكس ما يقوله الروافض، وأكثر المؤرخين الذين تكلموا عن القضية.
رابعاً: أنها فتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، ويضطر من يشارك فيها ومن لم يشارك فيها إلى ارتكاب الضرورات؛ لأن الأمور في وقت الفتنة تختلف عن حالة الرخاء والسلم، والفتنة لها ضرورات لا بد من اعتبارها، فقد يقبل المسلم في الفتنة ما فيه ضيم وضير عليه، قد يقبل المسلم في الفتنة ما يضره في دينه، لكنه يصبر، قد تعرض على المسلم في الفتنة مغريات، وتختل موازين الناس في الفتنة أيضاً في تقرير الحق والباطل، ففي الغالب في الفتنة ينغمر الحق وتسود الآراء الباطلة، حتى يرى الناس أنها هي الحق، وقد يخفى الأمر حتى على العاقل اللبيب، ويكون العاقل العالم الفقيه الراسخ الداهية حيران من أمره، أما الصغير العاطفي فيلج في الفتنة ويظن أنه على هدى، وهو ليس على هدى.
فهذه أمور حاصلة من خلال هذه الفتنة التي حدثت بين الصحابة؛ ولذلك اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض فيما شجر بين الصحابة، واعتبار الأمر أمرَ تاريخٍ قد قضي لم نشهده ولم نعلمه، والذين شهدوه ما علموا كل خلفياته، مما جعلهم تختلف عندهم موازين الحكم، وموازين الرؤية للقضية، فكيف بمن جاء بعدهم بأجيال، وكل منهم كان يروي ما يرى ولا يدري عما لا يرى، وكان أغلب ما في القضية من أحكام قطعية في قلوب أصحابها عند علي ومعاوية وكبار الصحابة، لا أحد يدري عما كان في نفوسهم من اجتهادهم إلا الإحسان الظني فيهم، وقضوا إلى ما فعلوا، وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لا شك أنهم لم يقعوا في أمر يقتضي القدح والطعن في أحد منهم، ولا إلغاء الأفضلية التي كانت لهم؛ لأن الصحابة قدرهم قبل الفتنة كقدرهم بعدها ولا فرق، لم تغير الفتنة من حقوقهم شيئاً، وما ثبت لهم من النصوص الشرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حقوقهم العامة، وفي حقوق بعضهم الخاصة، فهو ثابت لم تغير فيه الفتنة شيئاً، وإذا كان الأمر كذلك فكأن الفتنة لم تكن، وهي أمر انقضى ومضى.
إذاً: اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض في الفتنة، ولا حتى من أجل بيان وتقرير القول الحق؛ لأن إثارة القضية أمام عامة الناس، وأمام جمهور المسلمين، وأمام غير الراسخين في العلم لغير حاجة وضرورة مما يحرك القلوب على الصحابة، ومما يثير الشكوك والتساؤلات، ومما يبرر الوقوع في الفتن عند ضعاف الفقه، فما أكثر ضعف الفقه، أكثر الناس ربما إذا سمع القصة عن الصحابة ظن أنه يسوغ له أن يخالف، وأن يفارق، وأن يعاند، وأن يناطح العلماء ويناطح الولاة، ويظن أن هذا هو نهج الصحابة.
فلذلك ينبغي ألا تثار قضية الصحابة أبداً إلا عند طلاب العلم المتخصصين، في دروس خاصة ممن يهمهم ذلك، أو عند الإجابة على سؤال يجب ويتعين الإجابة عليه عند من سأل، أما إثارة القضية في الندوات أو في المحاضرات، أو في الكتب، أو في رسائل أو بحوث من جديد، فهي من الأمور التي نهى عنها السلف، ولذلك لما ظهرت الأشرطة الأخيرة فيما شجر بين الصحابة، ورجع الناس إلى المشايخ الكبار والعلماء بسبب ما حيرهم من ضعف الإيمان، صدرت فتاواهم بعدم جواز تداول هذه الأشرطة، وعدم نشرها بين الناس؛ لأن هذا يثير الضغائن على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثير الشكوك، وأكثر الناس لا يعرفون هذه الأمور، ولا يذكرون القواعد الشرعية في الحكم في هذه الأمور.
فيجب على طلاب العلم أن يلتزموا هذا التوجيه من المشايخ الكرام.