للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع العلم المفقود الذي لا يسع المكلف طلبه]

هنا قسم العلم إلى مفقود وموجود، فالمفقود -كما أشار الشارح- يمكن أن يلخص في ثلاثة أمور: أولاً: القدر، فالقدر كله علم لا صلة للبشر به، ولم يتعبدوا بالبحث عنه أبداً، إنما تعبدوا بالتسليم به مطلقاً، ونصوصه محكمة، بمعنى أنه لا سبيل إلى الزيادة عليها ولا النقصان.

الأمر الثاني: الغيبيات عموماً، سواء ما يتعلق بالله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى، وهي التي تسمى بالسمعيات، كأحوال الآخرة وأحوال المستقبل، وعالم الشهادة الذي لا نراه ولا تتناوله حواسنا ومداركنا، فإن هذا كله داخل في العلم المفقود الذي يجب على الإنسان ألا يتطلع إليه، ولا يبحث عنه، وبحثه من التكلف والإثم.

الأمر الثالث: بعض حكم التشريع، فحكم التشريع نوعان: نوع قد يدركه عامة الناس أو يدركه طلاب العلم أو يدركه الراسخون، وبعضه قد لا يدرك إلا بذكاء وفطنة، وبعضه يدرك بالبديهة.

النوع الثاني من حكم التشريع: ما لا يدرك أبداً، فيبقى سراً من أسرار الله عز وجل وحكمه الخفية.

إذاً: فحكم التشريع ليست كلها خفية، فما يدرك عند الناس هو درجات، وما لا يدرك داخل في العلم المفقود، فليس للإنسان أن يكلف نفسه في البحث عن علل التشريع لا في جزئياتها ولا في كلياتها، نعم يلتمس العلل من باب قوة اليقين ومن باب الاستزادة من الحكمة ومن معرفة نعم الله عز وجل على عباده، فهذا أمر طيب، لكن لم نتعبد بمعرفة حكم التشريع كلها، بل ليس أصل البحث عن الحكمة مطلوباً شرعاً، لكن الإنسان قد يجد في البحث عن الحكمة أحياناً نوع استزادة من الإيمان أو من تعظيم الله عز وجل.

النوع الثاني: العلم الموجود، وهو ما كان في متناول الإنسان، كاستنباط الأحكام من الأدلة، فهذا في متناول الإنسان، وقد تعبدنا به شرعاً، ومن الواجبات التي يجب أن تقوم به الأمة، وكذلك سائر الأمور الاجتهادية، سواء في علوم الدين أو في علوم الدنيا، فهذا علم موجود وقد تعبدنا بالبحث عنه، ولا تقوم مصالح العباد إلا به، بل لا تؤدى عبادة الله عز وجل على الوجه الشرعي السليم إلا به، فهذا العلم الموجود هو الذي أمرنا بطلبه وتعبدنا به، وهو الذي وردت النصوص بفضله وفضل طالبه، خاصة العلم الشرعي.

وأما قول الشارح: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] ففيه اضطراب في الحقيقة، فالمحقق حينما نصب (جهلنا) ربما اجتهد، وقد أخطأ في نظري؛ لأن العبارة مضطربة، ولا نجزم بأن الجهل هو المنفي هنا، ومع ذلك يمكن أن نلتمس للعبارة معاني: المعنى الأول: أن قوله: [ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] مرادف لقوله: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها]؛ أي: أن خفاء الحكمة علينا لا يلزم أنها غير موجودة، فحكمة الله موجودة فعلاً، ومعلومة بالضرورة، سواء علمت أو خفيت، وأظن العبارة الثانية مرادفة لها، فالعبارة الثانية: [ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] معناها أننا إذا جهلنا فلا يلزم من جهلنا عدم الحكمة، وهذا مرادف في المعنى للأول.

المعنى الثاني: أن انتفاء قدرتنا على الحكمة لا يعني أننا لا نقدر على شيء منها أبداً، بمعنى أنا قد نقدر على بعضها، إنما لا ندرك كل الحكمة، بل قد ندرك بعض الحكم، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.