للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة التوحيد والعدل عند المعتزلة]

قال رحمه الله تعالى: [وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية، التي لا يُعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية إنما يذكرونها للاعتضاد بها، لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا تثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبيِّن موافقة السمع للعقل، ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها.

والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغنٍ عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه، واتفق أن الشرع ما يهواه! كما قال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً: أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق، وتعاقَب على ما تركته منه؛ لأنك إنما اتبعت هواك في الموضعين.

وكما أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته، فالاعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه، فإن كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً، وإلَّا فلا، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان، كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح.

وفي المعتزلة زنادقة كثيرة، وفيهم من ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً].

ما ذكره الشارح من كلام عمر بن عبد العزيز فيه إشارة إلى فارق كبير بين منهج أهل السنة وبين مناهج أهل الأهواء، وهو أن أهل السنة يخضعون للحق أبداً ودائماً، ويدورون مع الحق حيث دار، بغض النظر عن رغباتهم وعن أهوائهم وعن ميولاتهم، هذا هو الأصل، وقد يشذ عن ذلك بعض من ينتسبون إلى السنة، والشذوذ لا عبرة به، لكن هذا هو الأصل الذي عليه عموم أهل السنة، وقد عصمهم الله عز وجل من أن يخلوا بهذا الأصل، الأصل في أهل السنة جميعاً أنهم يتبعون الحق، وأن هواهم مع الحق، بخلاف أهل الأهواء، فإن القاعدة عندهم سواء شعروا أو لم يشعروا أنهم يتبعون الحق إذا كان يوافق أهواءهم، وإذا خالف أهواءهم ردوه، إما بالإعراض المباشر كما عند غلاة الجهمية، وإما بصرفه عن معانيه حتى يلووا أعناق الأدلة بالتأويل، والقول بالمجازات، والتمحل والتلبيس، والبحث عن معاذير، ومحاولة التردد في قبول النص بالطعن فيه، أو برواته أو نحو ذلك كما عند غيرهم من أهل الأهواء.

وأهل الأهواء إذا خالف الحق والدليل ما هم عليه تركوه وأعرضوا عنه بأي نوع من أنواع الإعراض، وأغلب وسائل الإعراض عندهم تكون ملبسة، لا تجد إلا النادر من أهل الأهواء من يرد النص رداً مباشراً صريحاً، بل يتأوله لصرفه عما هو عليه، وهذه من أعظم الأمور التي نخشى أن يقع فيها كثير من الناس اليوم؛ لأن الناس جهلوا هذه القاعدة، فصاروا يتكلفون بشعور أو بغير شعور، فتجد الواحد منهم في مؤلفاته قد يستقرئ مثلاً الأدلة في موضع معين، فيحاول أن يجلب الأدلة ويلوي أعناقها لتوافق ما يريد أن يصل إليه.

وكذلك تجد كثيراً منهم يكتب في قضية شرعية معينة أو في منهج من المناهج، وفي نيته وعزمه المسبق أن يتوصل إلى نتيجة سبق أن قررها في نفسه، ومن هنا اختلط الأمر على كثير من شباب الأمة، خاصة أولئك الذين لا يسلمون من النزعات الحزبية والشعارات؛ فإنهم فتنوا الناس بمحاولة عرض ما هم عليه بالأدلة، وبدءوا يتكلمون عن مناهج الأنبياء ومناهج السلف، ومناهج الدعاة، ومناهج العلماء، وكل منهم يجر هذه المناهج إلى ما يريد، فهذا خلاف منهج السلف، وجر النصوص إلى ما يريده الشخص من أعظم سمات أهل الأهواء، التي فارقوا بها السنة، فعلى طالب العلم أن يتنبه لهذا الأمر وأن ينبه عليه، وأن يحذر هذه الخصلة التي وقع فيها كثير من الناس، ولذلك أرى ضرورة التمعن والتأني فيما يكتبه ويقوله الناس اليوم، فيما يتعلق بالتنويه عن مناهج السلف، وعن أصولهم، وعن مواقفهم، والارتكاز عليها في كثير مما يذهب إليه المختلفون من طلاب العلم، ومن المتنازعين في كثير من الأمور، ينبغي أن نتنبه، وقد يحدث هذا من أهل الصلاح والاستقامة، لا يلزم أن يكون صاحب هوى وممن عرف بالهوى؛ لأنه قد يدخل بنزعة معينة من النزعات التي وقع فيها غالب المسلمين الآن، لذا لا ينبغي أن يكون الميزان فقط هو صلاح الظاهر والاستقامة الظاهرة، ولا أن يكون الميزان هو مجرد حشد النصوص، ودعاوى أقوال السلف ومناهجهم، إنما ينبغي أن يكون الميزان الرجوع إلى الأصول التي قررها السلف مسبقاً، والتي عليها العلماء الراسخون، الذين لم يعرفوا بشيء من النزعات أو الميولات التي ابتلي بها كثير من المسلمين الآن.