قال رحمه الله تعالى: [قال أبو عثمان النيسابوري: من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة.
وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه.
والأمر كما قال؛ فإنه إذا لم يكن متبعاً للأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعمل بإرادة نفسه، فيكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شعبة من قول الذين قالوا:{لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤]، وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة، وتصفية نفسه، إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم.
ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء.
ومنهم من يقول: إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه، ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتاً للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كـ ابن عربي وأمثاله، وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت، لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة، وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها، كما قال: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي].
أشار المؤلف إلى بدعة تفضيل الأولياء على الأنبياء، وسبق الكلام عن هذا في درس من دروس الأهواء الملحق بهذا الدرس، لكن أحب الآن أن أنبه إلى مسألة مهمة دائماً تحدث عند تصور البدع، ولعلنا نستفيد منها فيما يجب أن يسلكه طلاب العلم في محاربة البدع، أو محاربة ذرائع البدع التي تحدث كثيراً عند الناس، وهو أن كثيراً من هذه الأفكار التي من ضمنها تفضيل الأولياء على الأنبياء، بدأت وكأنها ساذجة، وكأنها أفكار أو شبهات خفيفة ما تنبه لها الناس، وتفضيل الأولياء على الأنبياء، أو تفضيل طائفة من الناس على الأنبياء، هذه نزعة فلسفية كما قلت، توجد عند أكثر المستكبرين على النبوة وعلى الأنبياء، وعلى رأسهم الفلاسفة والباطنية وغلاة الصوفية وأهل الأهواء في كل ديانة، الذين يفارقون ديانات الأنبياء يوجد عندهم هذا الاستكبار، الذي يجعلهم يفضلون طوائف ممن يقدسونهم على الأنبياء، إما التفضيل المباشر الصريح، وإما التفضيل غير المباشر، وإنما يكون من لوازم المذاهب التي يلجئون إليها؛ لأن من سلك غير طريق النبيين لا شك أنه استهان بهم، وفضل عليهم غيرهم، لكن هنا نشأت هذه البدعة في تاريخ الإسلام، ربما يقول قائل: كيف تنتشر هذه البدعة التي يظهر عوارضها وخطؤها بشكل بيّن بين المسلمين؟ أقول: انتشرت غيرها من البدع في البداية حذرة غير بينة، وقد بدأت هذه الدعوى في منتصف القرن الثالث على أيدي العباد الجهلة، أو العباد الذين اختلط فيهم -والله أعلم- مسلك العبادة السنية عن جهل مع مسالك العبادات البدعية، أو عن تبييت لإفساد الإسلام والله أعلم بأحوال الأشخاص، لكن في الجملة الذي يتأمل أحوال العباد الأوائل في القرن الثاني والثالث، يجد منهم طوائف عمقت البدعة، وأخذت عن الأمم السابقة كثيراً من المذاهب والنحل والديانات، وأظهرتها بين المسلمين بشعار المسلمين وبالصبغة الإسلامية، وقد يكون ممن ينتسبون للسنة من العباد والنساك من وقع في هذه البدع، تقليداً لغيرهم دون أن يشعر أنها بدعة، وذلك ناتج عن جهله، وعن بعده عن مناهج العلماء، وعن عدم التزامه لسلوك الأئمة في وقته، وقد يكون من أصحاب الخير والفضل والاستقامة في ذاته، لكن نجد دائماً أن كل من كان عنده شيء من الجهل، أو الابتعاد عن مسالك السلف، إذا وضع نفسه إماماً في الدين، أو وضعته طائفة من الناس إماماً في الدين، فإنه يخطئ ويزل، ويتبع الناس زلته؛ بسبب صلاحه، فذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أن أول من تكلم بمسألة تفضيل الولي على النبي أحمد بن أبي الحواري، وهو من العباد المشاهير المتوفى سنة (٢٤٦هـ)، وكانت عبارته حذرة، ولما استنكر العلماء ذلك عليه أخرجه العوام من دمشق؛ لأن العوام الذين هم على الفطرة في الغالب يمتثلون توجيهات أهل العلم، ثم لما شاعت هذه المسألة وتكلم عنها أهل العلم انطفأت بعض الوقت، ولم يجرؤ أحد أن يقولها، حتى جاء الحكيم الترمذي، وهو معاصر لـ ابن أبي الحواري تقريباً، فكتب هذه المسألة في كتاباته ومؤلفاته، وأشار إشارة صرح فيها بختم الولاية، وأن الولاية تختم كما تختم النبوة، وهذه مسألة في الحقيقة فيها نوع من الأخذ بالقول بتفضيل الأولياء، لكن غير صريح، يعني: مسألة القول بختم الأولياء كما تختم النبوة فيها نوع من رفع مقام الأولياء، ولم