[توارد ما يقطع بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم]
قال رحمه الله تعالى:[ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر].
السياق يدل على أن مقصود الشارح رحمه الله الاستدلال على أن النبوة تعرف بالقرائن، وأن أي نبي يعرف صدقه بالقرائن، وأن أي مدع للنبوة يعرف كذبه بالقرائن، يقول: إن من علامات ذلك أن الإنسان فيما دون النبوة من الحالات العادية الكائنة في سلوك البشر ترد عليه أمور تتوارد واحداً بعد الآخر -يعني: قرينة بعد قرينة- حتى تجعله يجزم بالأمر بمجرد خواطر وقرائن، فكيف بأدلة تدل على أن النبي صادق؟! فالإنسان إذا كان جائعاً وأكل طعاماً قليلاً يشعر بسد بعض حاجته، فإذا انضاف إلى هذا الطعام طعام آخر شعر بشيء من سد الحاجة أكثر، فإذا أكل طعاماً يسد جميع حاجته شعر بالشبع، أليس كذلك؟! هذا في حالة الإنسان العادية، فكذلك مسألة التصديق، فالعقل مثل حاجات الإنسان الأخرى، فإذا توارد عليه من القرائن ما يدل على صدق خبر من الأخبار صدق، كأن يأتي إنسان من الناس يظهر عليه أنه ثقة فيخبر بخبر، فيترجح عندنا أن هذا الخبر صدق، فيأتي آخر يظهر عليه أنه ثقة فيقول الخبر، فيترجح عندنا بشكل أقوى أنه صدق، فيأتي ثالث نعرفه يقيناً أنه صادق وأنه من الثقات بنفس الخبر ويقول: إنه شاهد عيان.
فمن هنا يحصل الجزم بأن الخبر صادق، فإذا توارد الخبر من مجموعة أشخاص فمئات فآلاف صار جزماً، وهذا في أحوال الناس العادية، فكيف بأخبار الأنبياء التي تتوارد على الناس من كل وجه فتصدقها قلوبهم وعيونهم ومسامعهم، فالأنبياء يحدث لهم من الأحوال والأقوال والتصرفات والأوامر والنواهي والتشريعات والعقود والعهود والتعامل مع الآخرين والأخبار التي يخبرون بها ثم تقع بمجموعها ما يوجب اليقين بأن النبي صادق، فالرسول صلى الله عليه وسلم تحقق له الوحي الذي نزل عليه -وهو القرآن والسنة-، ثم إخباره عما يحدث، ثم ارتفاع شأنه بين الأمة وكثرة أتباعه، واستقرار دينه وتمكنه في الأرض، كل هذا الأمور توجب عند كل عاقل لو تجرد من الهوى أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، لكن إذا حجب الهوى قلبه -نسأل الله العافية- فقد لا يهتدي، فالمشركون الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه بالصدق ويسمونه الأمين، ولما جاءهم بالوحي من عند الله ما استطاعوا أن يكذبوه لذاته، إنما بحثوا عن عوامل أخرى، ومع ذلك بقي عندهم صادقاً وكانوا يشهدون له بالصدق بعد أن جاءهم بالوحي، ومع ذلك لم تنفعهم هذه القرائن، لكن نفعت المؤمنين وزادتهم إيماناً.
إذاً: فمسألة الاستدلال على النبوة لا يلزم أن تكون بمعجزة فقط، بل أدلة النبوة وأدلة صدق النبي تتضافر عليها عوامل وقرائن كثيرة توجب اليقين لكل عاقل منصف.
قال رحمه الله تعالى:[وكذلك العلم بخبر من الأخبار؛ فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك].