[النفي الصرف لا يقال في حق الله عز وجل]
النفي الصرف هو النفي الذي لا يتضمن ما يقابله، النفي الذي لا يتضمن الضد، أو ضده المعدوم، فهذا النفي لا يعد كمالاً، كنفي الوجود، فغلاة الفلاسفة ينفون عن الله الوجود، والذي لا يوجد هو العدم، فنفي الوجود ليس صفة كمال، بل صفة نقص؛ لأنه نفي صرف لا يتضمن الكمال الذي ضده، لذلك نجد في الأمثلة السابقة أن الله سبحانه وتعالى نفى عن ذاته المقدسة نقصاً لابد من أن يتضمن نفيه ويستلزم إثبات كمال، ولذلك يجتنب النفي الصرف، ككونه لا يرى، وليس في جهة، ونحو ذلك من العبارات التي سيوردها الشارح عن المتكلمين والفلاسفة، فإنهم نفوا نفياً سلبياً لا يتضمن شيئاً من الإثبات، وهذا النفي السلبي لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى.
فالنفي الذي لا يتضمن ضده كنفي الوجود، أو نفي ما يمكن أن يوصف به الكامل؛ فإن هذا النفي الصرف لا مدح فيه.
فإذا قلت: هذا الشيء لا يوجد؛ فهذا يعني المعدوم، أو: هذا الشيء لا يرى؛ فالذي لا يرى هو إما الصغير المتناهي في الصغر، أو الذي لا يوجد أصلاً، فالمعدوم لا يرى والصغير المتناهي في الصغر لا يرى.
أما الله سبحانه وتعالى فهو يرى، لكن الناس في الدنيا لا يمكن أن يروه؛ لأنهم غير قادرين على الرؤية، فلذلك ثبتت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، أما الذي لا يرى فهو المعدوم، وذلك -أي: نفي الرؤية عن الله جل جلاله- هو مذهب المعتزلة وبعض المتكلمين.
وكذلك قولهم: إن الله ليس في جهة، وهذه كلمة تحتاج إلى شيء من التفصيل، لكن الذي ليس في جهة بإطلاق هو المعدوم، أما ما يوجد فلابد من أن يكون في جهة، لكن الجهة يفصل فيها في حق الله تعالى، فإن أريد بالجهة في حق الله العلو والفوقية؛ فالله تعالى هو العلي: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨]، وإن أريد بالجهة المخلوق -أي أن الله يحويه مخلوق- فهذا ليس وارد في حق الله تعالى.
وقد سألني أحد الإخوان سؤالاً يتعلق بهذا الموضوع، فقال: إنه سمع أحد الذين كانوا يفسرون بعض آيات القرآن من أهل التأويل يقول بأن الله لا يقال: إنه فوق ولا عالٍ ولا يشار إليه لا بالفوقية ولا بالعلو؛ لأن العلو -بزعمه- ذاتي، وعلو الله معنوي.
وأقول: هذا هو مذهب المتكلمين نفاة الصفات أو مؤولة الصفات.
أما مذهب السلف -وهو مقتضى الآيات والأحاديث الصريحة الصحيحة- فهو أن الله سبحانه وتعالى في العلو، فإن سميناه جهة فهو جهة، وإذا لم نسمه جهة بالمعنى المخلوق؛ فهذا حق، فلا يسمى العلو جهة بالمعنى المخلوق، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالعلو والفوقية، وعلوه وفوقيته ذاتيان، بمعنى أن الله بذاته فوق مخلوقاته، وأن الله مباين ومنفصل عن مخلوقاته بحد، لكن الكيفيات لا نعلمها، ويشار إلى ذلك بالإشارة عند التفهيم، فإذا قيل: قال طفل أو إنسان جاهل: أين الله؟ فلا مانع أن يشار له إلى الفوق، والإشارة تعني الإشارة إلى العلو والفوقية لا الإشارة إلى الذات بمعنى إشارة الرؤية، لكن يشار إلى الذات وإلى العلو بالإشارة العامة التي لا تعني الكيفية، فلا مانع من الإشارة؛ لأن الله فوق، والفوق جهة واحدة لا تتعدد.
فالله سبحانه وتعالى لا تحكمه الجهات الست أو الأربع، فهذه الجهات محكومة بها المخلوقات، بل الأرجح -والله أعلم- أن هذه الجهات تحكم بها الأرض فقط.
أما ما فوق الأرض؛ فلن يجد الإنسان إلا العلو، ولو ارتفع إنسان عن الأرض مئات الكيلو مترات لما وجد إلا العلو، ولو طار من هذه الأرض وهي تحته فإنه بعد برهة من الوقت سيجد الأرض وكأنها الشمس والقمر فوق، فلا يجد إلا الفوق؛ لأن الأفلاك مستديرة كلها، فعلى هذا عندما يتحرر الإنسان والمخلوق من وجوده في هذه الأرض لا يبقى أمامه إلا العلو.
فالله سبحانه وتعالى بكل شيء محيط، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨]، وهو العليم، ولا حرج على الإنسان في أن يقول هذا، بل يقرره كما قرره السلف، وكما هو مقتضى النصوص الشرعية.
أقول هذا لأن بعض الشباب يتلقون أحياناً عن بعض من نشئوا في بيئات مؤولة، فيسمعون منهم ما يشكك في هذه القضية، فأحببت التنبيه عليها بمناسبة الكلام عن صفات الله.
قال رحمه الله تعالى: [ألا ترى أن قول الشاعر: قُبَيِّلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله: (قُبَيِّلة)، علم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم].
لأن وجه الكمال في أي مخلوق هو قدرته على الشيء، فإن كان هذا الشيء حسناً ففعله له كمال، وإن كان هذا الشيء سيئاً فتركه له كمال.
فلذلك الإنسان قد يمدح بأنه قادر على الظلم ولكنه لم يظلم، فيمدح بذلك.
أما إذا كان لا يقدر على الظلم أصلاً فلا يمدح بذلك؛ لأنه عاجز.
فالقادر على فعل الشيء يمدح بتركه إذا كان هذا الشيء مذموماً، كما أن القادر على الشيء الممدوح إذا فعله يمدح به.
إذاً: فالنفي أحياناً قد يقتضي نقصاً، وإن أراد النافي بذلك التنزيه كما سيأتي في ذكر الصفات التي ذكرها المتكلمون نفياً عن الله