[التوكل على مقدر الأمور لا ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب]
قال رحمه الله تعالى:[وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب].
يشير بهذا إلى طوائف من العباد والنساك الأوائل، ثم إلى أكثر الصوفية الطرقية في العصور المتأخرة، فإن منهم من يزعم -بل أكثرهم يزعم- أن التوكل ينافي فعل الأسباب، بمعنى: أن الإنسان إذا سعى وحرص على فعل الأسباب نقص توكله، وأن مقتضى التوكل أن يستسلم الإنسان للكسل والخمول ويقعد، وأنه سيأتيه رزقه، نعم قد يأتيه رزقه، لكن بمنة الناس، فالله عز وجل قد كفل الرزق، لكن لا يعني ذلك أن الله عز وجل تعبدنا بترك الأسباب، بل العكس هو الصحيح في كل شيء، ليس فقط فيما يتعلق بتحصيل الرزق وبتحصيل العيش، بل في كل الأسباب التي تهم الناس في دينهم ودنياهم، فالعلم لا يمكن تحصيله إلا بالجهد وبالصبر وببذل الأسباب، والعيش لا يمكن تحصيله على وجه تقوم به أحوال الأمة وشئونها إلا ببذل الأسباب، بل تحقيق ما أمر الله به من إقامة الفرائض والسنن والنوافل وغيرها لا يمكن أن يتأتى للإنسان إلا بالجهد وبذل الأسباب.
إذاً: لابد للعبد أن يجمع بين التوكل على الله عز وجل وبذل الأسباب، وأن يعلم أن من مقتضى التوكل -بل من لوازم التوكل- أن يبذل الإنسان الأسباب المأمور بها شرعاً، لكن لا يجعل الأسباب هي المراد عنده وهي الغاية، ولا يتعلق قلبه بالأسباب، إنما يتعلق قلبه بالله عز وجل الذي أمر بفعل الأسباب، من هنا يكتمل إيمانه ويسدد ويوفق.
قال رحمه الله تعالى: [وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب! وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، كما قد عرف في موضعه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين؛ يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}[الفرقان:٧]، ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، وقد يكون ذلك من مكاس، أو والي شرطة أو نحو ذلك، وهذا مبسوط في موضعه، لا يسعه هذا المختصر.
وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأقوال التي في تفسير قوله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:٣٩].
وأما قوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن:٢٩] قال البغوي: قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق، ويعز قوماً ويذل آخرين، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء].