للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إعراض الغزالي عن الطرق الكلامية واشتغاله بالحديث في آخر حياته]

قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات والبخاري على صدره].

الغزالي بدأ حياته بالفلسفة، ثم عرج على علم الكلام، ونقد الفلسفة، وزعم أن عند المتكلمين فيما يخالفون فيه الفلاسفة ما ليس عند الفلاسفة، وأنهم أفضل؛ لأنهم أقرب إلى الكتاب والسنة نوعاً ما من الفلاسفة.

ثم بعد تعمقه في علم الكلام وصل إلى الطريق المسدود الذي وقف عنده الآمدي ووقف عنده الجويني ووقف عنده الشهرستاني وغيرهم، فنزع للتصوف، وغرق فيه، ثم إنه لم يصل إلى ما يشفي غليله في التصوف، فخرج من التصوف وأعلن إفلاسه في هذه الأمور كلها، وسلم تسليم العجائز، ولم يهتد إلى تفصيلات عقيدة السلف، لكنه سلم تسليماً مجملاً بأن السلف هم الذين كانوا على الحق، مع أنه كان في كتبه يقرر المذاهب كلها ولا يذكر عقيدة السلف، حتى إنه مرة من المرات قال: إن الحق لا يعدو أربعة مذاهب، فذكر المذاهب الباطلة كلها إلا مذهب السلف، فذكر الفلسفة وعلم الكلام وذكر التصوف، وذكر مذهباً رابعاً.

ثم تردد وشك في الصحيح من هذه الأربعة، هل هو طريق الفلاسفة، أم طريق المتكلمين، أم طريق المتصوفة، ثم انتهى إلى أن طريق المتصوفة هي الطريق الصحيحة، وما ذكر طريق السلف أبداً لا ابتداء ولا انتهاء، وهذا دليل -بل فيه عظة وعبرة- على أن من تنكب الصراط وخرج عن نهج أهل السنة والجماعة قد لا يهتدي إلى السنة ولا يعرفها، حتى وإن مرت عليه أو سمعها لا يفقهها، ولا يفقه قلبه الحق، وهذا مما يدل على أن أهل البدع إذا أصروا على بدعهم يصرفون عن الحق، فيسمعون الحق فلا يعقلونه، وهذا واقع كثير من أهل البدع، بل واقع كل أهل البدع المغلظة الذين يصرون على بدعهم، واقعهم أنهم لا يهتدون إلى الحق، وإن سمعوا بالحق وعقيدة السلف فإنهم يفهمونها معكوسة، يفهمون أنها هي الباطل، فبذلك يكثر لمزهم للسلف وسبهم لهم وتشنيعهم عليهم.

وفي موقف الغزالي عبرة، فإنه حينما رجع عن هذه الأمور كلها ما اهتدى إلى تفاصيل عقيدة السلف، وإن كان سلم تسيلماً مجملاً، لكنه ما اهتدى إلى التفاصيل، فبقي على ما عليه العوام، فذلك أكب على قراءة كتب السنة، ومن ضمنها صحيح البخاري، حتى قيل: إنه مات رحمه الله وصحيح البخاري على صدره، ونرجو أن يكون بذلك -إن شاء الله- قد تاب توبة نصوحاً.

لكن ينبغي أن نأخذ من مثله العبرة بعد تيه طويل وعمر مديد قضاه في متاهات على شهرته وذكائه وقدرته وإسهاماته في العلوم الكثيرة، إلا أنه ما اهتدى يوما ًإلى أن يعرف تفاصيل عقيدة السلف؛ لأن الله عز وجل صرفه عن ذلك باعتناقه لعقائد أهل الكلام.

ومع ذلك فالرجل فيه خير كثير، ونرجو إن يكون -إن شاء الله- قد تاب وحسنت توبته، وله من العلوم ما هو نافع، وله من العلوم ما فيه شيء من الأخطاء والانحرافات كما هو معروف.