للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اعتقاد أن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى لازمه القول بخلق القرآن]

قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:٨٨] أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو هذا إلى المتلو المسموع؟! ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع].

القرآن -كما هو معروف وكما جاء في النصوص- تكلم به الله عز وجل كما يليق بجلاله، ثم سمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل وأسمعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل بطريقة الوحي المعروفة، فالقرآن ليس منه شيء بإلهام، وليس منه شيء مسموع من غير معرفة المسموع منه، أي: لا يسمع من مجهول، وليس في القرآن شيء جاء عن طريق المنام أو عن طريق التخيل، ولا عن طريق الخرافة، فطرق الوحي الكثيرة كلها لم يرد فيها القرآن إلا بالطريقة التي هي عن جبريل عليه السلام، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم منه كما سمعه جبريل من الله عز وجل.

إذاً: فالقرآن بمراحله الثلاث هو كلام الله، لكن المتكلمين خالفوا المعتزلة في بعض المراحل، فالمتكلمون يعترفون بأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وبعضهم يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل بحرف وصوت، لكن ينكرون أن يكون تكلم الله به، ومن هنا يوافقون الجهمية والمعتزلة في المنهاج، لكن يخالفونهم في الطريق الأخيرة وما قبل الأخيرة، ومع ذلك يتردد بعضهم في أن يكون جبريل تكلم به أو نطق به لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحرف وصوت، فهم مضطربون في ذلك أشد الاضطراب، بل إن بعض المتكلمين يميل إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه بحرف وصوت، إنما عبر عنه، وهذه الفئة توافق المعتزلة والجهمية موافقة مطلقة إلا في الألفاظ، وعادة المتكلمين أنهم يحاولون أن يلطفوا ألفاظهم، فلا يأتون بأمور ترد النصوص رداً صريحاً كما يفعل الجهمية والمعتزلة، إنما يحاولون التلفيق، ويقولون: إن أردنا إلا التوفيق بين السنة وبين المعقولات، وهذه دعوى المنافقين.

قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:٨٨] أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه؟! وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه.

فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع، فأما أن يشير إلى ذاته فلا؛ فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة؛ فإن حكاية الشيء مثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟! ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة وآيات مسطرة في صحف مطهرة، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود:١٣]، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:٤٩]، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:١٣ - ١٤].

ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول: (آلم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)، وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين.

قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في المنار: إن القرآن اسم للنظم والمعنى.

وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه، وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية.

وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه].