للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بطلان إنكار المعتزلة للكرامة]

وقول المعتزلة في إنكار الكرامة: ظاهر البطلان، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات.

وقولهم: لو صحت لاشتبهت بالمعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي صلى الله عليه وسلم بالولي، وذلك لا يجوز! وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدّعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً، بل كان متنبئاً كذاباً، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبئ، عند قول الشيخ: (وأن محمداً عبده المجتبى، ونبيه المصطفى)].

هذه مسألة مهمة يحسن التنبيه عليها في هذا المقام، وهي من أسباب وقوع اللبس في مسألة المعجزة والكرامة، وهي أن المعتزلة وغير المعتزلة من الفلاسفة وبعض العقلانيين قديماً وحديثاً، وأكثر المتكلمين الذين أشكل عليهم الخلط بين المعجزة والكرامة، جعل بعضهم الدلائل الوحيدة على النبوة هي المعجزات، ومن هنا أدى هذا إلى إنكار الكرامات وإنكار الخوارق وإنكار السحر إلى آخره من الأمور التي لزمتهم، وهي ليست مستقيمة، حتى مع قواعدهم العقلية، وهم استندوا على دلالات العقول، والعقول لا تدرك ما وراء عالم الشهادة.

لكن الذي يهمنا في هذا المقام أن أكثر اللبس وارد من معنى المعجزة وكونها دلالة على النبوة، فإطلاق المعجزات على آيات الأنبياء هذا يترتب عليه خطأ في المفهوم، وخطأ في اللوازم، وخطأ في النظرة إلى المعجزة والكرامة والخوارق، فالصحيح أن ما يحدث للأنبياء هو آيات، سواء كانت معجزات ظاهرة أو معجزات غير ظاهرة، سواء كانت خوارق عادية أو خوارق معنوية، أو كانت قرائن أحوال، وغالب ما يكون للأنبياء قرائن أحوال.

إذاً: فدلائل الأنبياء هي آيات، وتسميتها معجزات أوجد اللبس، وهو ظنهم أنه لا يمكن أن تكون للنبي آية إلا أن تكون بمعنى الإعجاز بالظاهر الصريح، مع أن هناك آيات إعجازها غير ظاهر ولا صريح، لكن عند بذل الهمم وعند التفكير وصرف الجهود العقلية إليها يتبين أنها آية من آيات الله عز وجل، فمثلاً: إعجاز القرآن إعجاز أكيد يعترف به جميع العقلاء، لكن العامي لا يُدرك لأول وهلة إلا عندما يُفهّم ويُبين له أن القرآن معجزة.

إذاً: الإعجاز هو جزء من آيات الأنبياء، وليس هو وصف لكل آيات الأنبياء، فدلالات النبوة هي آيات بعضها معجزات بالمعنى الاصطلاحي، وبعضها قد لا تسمى معجزات، إلا بعد بذل جهد وتبين، وقد تكون المعجزة معنوية لا تدرك إلا بجهود أجيال.

فهذه المسألة هي راجعة في نظري إلى عدم تحقيق مناط الأمر، وعدم الاتفاق على موطن الخلاف، والصحيح أن دلائل النبوة هي آيات متنوعة، منها: المعجزات الظاهرة، ومنها: المعجزات غير الظاهرة، ومنها: قرائن الأحوال، وقرائن الأحوال هي ما يحدث للناس من الأمور التي تدل على الصدق والأمانة والأخلاق الفاضلة أو على العكس، فالأنبياء كلهم تميزوا بقرائن أحوال في سلوكهم، وهي تدل على أنهم لا يمكن أن يكذبوا على الله عز وجل في دعوى النبوة، وأنهم صادقون، وأنهم مشفقون، وأنهم أمناء إلى آخره.

ولذلك لا نجد النبوة تكون في إنسان مغمور يخرج من كهف أو يخرج من أدغال الغابات أو غيرها، وإنما يخرج من بين قومه يعرفونه سلفاً، فتكون قرائن الأحوال هي أعظم آيات الأنبياء، وهي ليست معجزات، بل عند التحقيق أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمن الناس كرهاً بقوة السيف، أو بالرعب الذي أوجده الله عز وجل للإسلام بقوته، حينما قام الإسلام على الأرض، أقول: إن الذين آمنوا اختياراً آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لقرائن أحواله، والذين نزلت عليهم الآيات العظمى التي تسمى معجزات ما آمنوا، الذين نزلت بناء على طلبهم، مثل: انشقاق القمر، فلما انشق وصفوا ذلك بالسحر، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء، فلما عُرج به إلى السماء وجاء بخبر الرقي كذّبوه.

إذاً: ما نفعت ما يسميه المعتزلة: معجزات وهي آيات، ما نفعت الآيات الكونية الصريحة المنظورة، إنما أقامت الحجة عليهم، لكن لم يهتد بها أولئك الذين طلبوها، وهي زادت المؤمنين إيماناً، وقد يكون هناك من أسلم بعض الأفراد، لكن أصحاب التحدي -الذين كتب الله عليهم الضلالة- لم تنفعهم هذه الأمور.