[إطلاق الجماعة على مجموع المسلمين وعامتهم المجتمعين على السنة]
المعنى الرابع من معاني الجماعة: تطلق الجماعة على مجموع المسلمين وعامتهم، الذين اجتمعوا على إمام أو أمر من أمور الدين التي لها أصل في الشرع، أو اجتمعوا على مصلحة من مصالحهم العظمى الكبرى، وهذا الإطلاق في مفهوم الجماعة ينبغي أن يقيد بقيد، وهو جمهور المسلمين المستمسكين بالسنة.
وبعض الناس يظن أن الجماعة لا تكون إلا في أمر الدين، لا، بل الدين جاء لحفظ دنيا الناس ومصالحهم، فالأمور التي تحفظ دنيا الناس، وتحفظ أعراضهم وأموالهم، وتؤمن سبلهم إذا لم يتم الاجتماع عليها أدى ذلك إلى فتنة في أعراض الناس وأموالهم ودمائهم وأنفسهم ونحو ذلك.
إذاً: فمصالح المسلمين الدنيوية والدينية كلها معتبرة في الجماعة، فإذا اجتمع عامة المسلمين أهل الحل والعقد على مصالحهم العظمى، وجب الخضوع لهذا الاجتماع وإن كان مرجوجاً، ووجب الاستمساك به، وعدم الفرقة عنهم في أي أمر من الأمور التي فيها مصالح، فإن الشذوذ عنهم ومخالفتهم هلكة وشقاق، وخروج عن الجماعة.
ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري في الجامع الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني)، ثم ذكر شيئاً من الفتن فقال: حذيفة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) فأوصاه أولاً بأن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم على كل حال، فإن فرض أن ليس هناك جماعة للمسلمين ولا إمام، فلا ينبغي للمسلم أن يتصدر وأن يبرز برأي تزيد به الفرقة؛ لأن الناس إذا كانوا في الفرقة، فالرأي الذي يتبناه الشخص دون أن يكون للمسلمين جماعة، يكون زيادة في الفرقة، فإذا كان للناس عشرة آراء وكان له رأي مخالف زادهم فرقة، فيكون الرأي الحادي عشر وهكذا.
فإذاً: لا بد أن يبقى ولو أدنى حد من جماعة المسلمين، والاجتماع على أئمتهم، وهنا يكونون الجماعة، وأن المخالفة في هذه الأمور تؤدي إلى الفرقة، فإن لم يكن هناك جماعة للمسلم ولا إمام، فالمسلم يسعه الاعتزال، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بالاعتزال في هذه الحال.
وكذلك حديث أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله على الجماعة) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، مات ميتة جاهلية).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة) مثل حديث أسامة بن شريك.
وحديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فجعل ترك الجماعة ومفارقتها مقارناً لترك الدين، وجعل حكمهما واحداً، سواءً اجتمعا أو افتراقا.
والمراد به: أن من ترك جماعة المسلمين، فإنه يعاقب معاقبة التارك لدينه.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت: (ثلاث خصال لا يغل عليهما قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).
وقال الطبري فيما حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج من الجماعة.
فأكثر نصوص الجماعة التي وردت في السنة إنما تنصرف إلى هذه المعاني، أي: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على مصلحة من مصالحهم العظمى، كالاجتماع على أمير، أو أمر من أمور دنياهم أو من أمور دينهم، فهم ممثلون بأغلبهم، أو بعلمائهم أو بأهل الحل والعقد بمجموعهم، وأهل الحل والعقد وأهل الرأي أحياناً يكونون من عدة أصناف، قد يكون أهل الحل والعقد هم العلماء، وقد يكون أهل الرأي والمشورة من أهل العلم، وأحياناً يكون أهل الحل والعقد في الأمة من الأمراء، ورؤساء العشائر، والتجار، وأصحاب المحسوبيات وغيرهم.
فمعنى أهل الحل والعقد: هم الذين بأيديهم حل أمور الأمة وعقدها، في أمور دنياهم خاصة إذا ضعف الدين في الناس، فأهل الحل والعقد لا بد من اعتبار ما يجتمعون عليه؛ لأنه لا يمكن استقامة أمر الناس في دينهم ودنياهم إلا على ذلك؛ لأنه لا يمكن تحقيق الدين إلا بأمن واستقرار، ولا يمكن تحقيق الدين إلا بجماعة، ولا يمكن تحقيق الدين أيضاً إلا بطاعة على المنشط والمكره، على ما يحب الناس وما يكرهون.
إذاً: من أعظم معاني الج