[امتناع حصول الإيمان بمجرد الإقرار دون ما يقوم بالقلب من حقائق الإيمان]
قال رحمه الله تعالى: [والشارع صلوات الله عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط].
هنا يرد على الكرامية.
قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب].
هذا الكلام فيه إجمال، فقوله: [فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب] الصحيح أن الأمرين يجتمعان، الأعمال تتفاضل بالعدد وبتفاضل القلوب.
فالإنسان الذي يعمل عملاً صالحاً لا شك أن ثوابه على هذا العمل بقدر ما في قلبه من الإخلاص واليقين وبقدر كثرة العمل، فالإنسان إذا كان يكثر من النوافل عن يقين وتصديق بالله وخشوع، فإنه يؤجر ويعظم ثوابه على الأمرين: على ما في قلبه من التصديق والخشوع وعلى كثرة العمل، وهنا حصر الأجر والثواب والتفاضل على ما في القلب فقط، وهذا جارى فيه المرجئة، فكلامه صحيح من وجه، لكنه يحتاج إلى إكمال، فيحسن أن تكون العبارة: وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب وبعددها وبنوعها أيضاً.
قال رحمه الله تعالى: [وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار.
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت!].
هذه قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين ثم جاء إلى عابد وسأله: هل له من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فلما يئس من التوبة قتله وأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فقيه في دين الله فسأله: هل له من توبة؟ فقال له: نعم، ومن يحول بينك وبين الله عز وجل؟! فنصحه بأن يذهب إلى مجتمع صالح وإلى أهل بلد صالحين، لعله بينهم تصلح أعماله فيقبل الله توبته، وفعلاً اتجه إلى هذه البلاد من أجل أن يعيش بينهم وهو صادق التوبة، فمات في الطريق بين القريتين، فجاءته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فتنازعوا فيه، كل منهم يقول بأنه تبع له، ثم قيست المسافة بين البلدين فوجدوا أنه إلى بلد أهل الخير والاستقامة أقرب، فدخل في رحمة الله عز وجل.
والشارح يقصد بهذا أنه استحق الجنة قبل أن يعمل، لكن الصحيح أن هذا الدليل ليس دليلاً للمرجئة، إنما هو دليل لأهل السنة، وإن كان فعلاً دليلاً للجميع -للمرجئة وأهل السنة- على من قال بأن الإيمان قول اللسان فقط، فهو أيضاً دليل لأهل السنة؛ لأن ما استحق به الثواب عمل واعتقاد، فهذا الرجل الذي استحق الثواب من الله عز وجل واستحق الجنة والتوبة أنشأ العمل، بمعنى أنه سار برجليه متجهاً إلى بلد صالح وإلى أناس صالحين ليحقق ما أمره الله عز وجل به، فهو عمل، وليس المقصود ما وقر في قلبه فقط.
قال رحمه الله تعالى: [وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها].
هذا دليل لأهل السنة على أن الأعمال من الإيمان.
قال رحمه الله تعالى: [وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض.
وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب].