قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: ترك الناس العمل بهذه الآية، يعني قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}[الحجرات:٩]، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم، كما أمر الله تعالى، فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية.
وهكذا مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم ترد الى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول، مثل: تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل، مثل: حبسه وضربه وقتله.
والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة، وكفروا من خالفهم فيها، واستحلوا منع حقه وعقوبته.
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عادلون وإما ظالمون، فالعادل فيهم: الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم: الذي يعتدي على غيره، وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[آل عمران:١٩]، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل، أقر بعضهم بعضا، كالمقلدين لأئمة العلم الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول، وقالوا: هذا غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول مقلِّده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور].