هذا الكلام كله فيه رد على فئتين، وببيان مذهب هاتين الفئتين يتبين المقصود: الفئة الأولى: الذين يزعمون أن العباد يستقلون بأفعالهم استقلالاً تاماً بجميع الأفعال أو ببعضها، وهم القدرية على مختلف أصنافهم، فهذا رد عليهم.
والفئة الثانية: وهم الجبرية، وهم أيضاً على درجتين، الجبرية الغالية جبرية الجهمية، وهم الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله، ويجرون هذا الأمر حتى على الأسباب، يعني: يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على أفعال خفية ليست هي بذاتها التي تتسبب في وجود الأفعال، ويتضح هذا ببيان ما عند الصنف الثاني من الجبرية، وهم كثير من جبرية الأشاعرة والماتريدية أصحاب القول بالكسب، فلهم فلسفة عجيبة في مسألة الأسباب، فكثير منهم يرون أن الأسباب ليست إلا قرائن على فعل الله عز وجل، وليست مؤثرة في الأفعال، وهذا ردة فعل للقدرية، يزعمون أن كل شيء مادام بفعل الله عز وجل وتقديره؛ فالأسباب لا أثر لها البتة، فعلى سبيل المثال: إذا قلنا لهم: نرى أن الله عز وجل جعل السحاب سبباً للمطر، والمطر سبباً لحياة الأرض ثم للنبات وهكذا، قالوا مبالغة في إلغاء الأسباب: السحاب الذي ترون قرينة على وجود المطر وعلامة فقط، وما هو بسبب، ولذلك ألغوا الأسباب، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: إنهم يحترزون من ذكر الباء السببية في أفعال الله عز وجل أو في ألفاظ القرآن، وقد رد عليهم ابن القيم في كتابه (شفاء العليل).
والمهم أنهم يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على فعل الله وليست أسباباً حقيقية مؤثرة، زعماً منهم أن قولنا بأنها مؤثرة يتنافى مع أن الله خالق كل شيء؛ وهذا فهم خاطئ، فالله عز وجل فعال لما يريد، وكل شيء بقدره وفعله، لكن جعل للأشياء أسباباً، وقد يكون من أفعال الله ما ليس له أسباب مباشرة، فالله عز وجل يخلق ما يشاء كيف يشاء، قد يخلق الشيء بكن، لكن سائر الأفعال التي نراها في الكون تكون بأسبابها، فالله عز وجل خالق الأسباب والمسببات، وهو على كل شيء قدير، فلا يخرج عن ملكه شيء، لكن مع ذلك فإن من إتقان الملك وإتقان الخلق أن توجد هذه الأسباب، فهذا من بديع الصنع ومن عظيم خلق الله عز وجل وقدرته أن توجد هذه الأسباب، فالشيخ هنا يرد على طائفتين: الذين يلغون الأسباب بالكلية، ويجعلون الأسباب ما هي إلا قرائن ودلالات على الأفعال، وكذلك الذين يزعمون أن المكلف يستقل بفعل نفسه، سواء كل الأفعال أو بعض الأفعال، والله أعلم.
قال رحمه الله تعالى:[ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق أن يسأل غيره، فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره].