للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما قاله الغزالي في حكم تعلم علم الكلام]

قال رحمه الله تعالى: [ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الذي سماه إحياء علوم الدين، وهو من أجل كتبه -أو أجلها-: فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف].

قبل أن يفصل الغزالي أحب أن أنبه إلى أنه رحمه الله اضطرب اضطراباً شديداً كعادة المتكلمين الذين لا يستقرون في عقائدهم على شيء، وإن كان أنصف في كلامه هنا، لكنه اضطرب، فكلامه يشعر بوصف مذهب السلف بأنهم غلوا في رد علم الكلام أو أنهم أسرفوا في رده، ثم بعد ذلك رجح قول السلف في رد علم الكلام، ثم يرجع عن ذلك مرة أخرى في بعض عباراته، وكأنه لا يريد أن يستقر على رأي، وإن كان في الجملة -خاصة في آخر حياته، وكما هو ظاهر من غالب كلامه الذي سنقرؤه الآن- قد رجع عن علم الكلام، ورأى أن مذهب السلف هو الصحيح وهو الأسلم والأعلم والأحكم، لكن مع ذلك بقيت عنده لوثات كلامية جعلت نفسه تتعلق بعلم الكلام بعض التعلق.

قال رحمه الله تعالى: [فمن قائل: إنه بدعة وحرام، وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام.

ومن قائل: إنه فرض إما على الكفاية، وإما على الأعيان، وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات؛ فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله.

قال: وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف.

وساق ألفاظاً عن هؤلاء.

قال: وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، قالوا: ما سكت عنه الصحابة -مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم- إلا لما يتولد منه من الشر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء.

واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم طريقه ويثني على أربابه.

ثم ذكر بقية استدلالهم، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر، إلى أن قال: فإن قلت: فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل، فقال: فيه منفعة، وفيه مضرة: فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال، أو مندوب أو واجب، كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام.

قال: فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد المبتدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل].

قبل أن نعرض كلامه في منفعة علم الكلام نحب هنا أن نستجلي أدلة السلف على تحريم علم الكلام من خلال ما ذكره الغزالي وغيره بإيجاز.

ويظهر أن الغزالي رجح أن قول السلف هو الصحيح، لكنه استثنى استثناءً كما سيأتي، بمعنى أنه يرى أن علم الكلام مضرته أكثر من منفعته، والاستثناء الذي سيورده منقوض بكلامه هو.