ومما ينبغي أن يشار إليه أن عقيدة التثليث ليست هي عقيدة النصارى ابتداءً، فالنصارى أخذوها عن غيرهم؛ إذ التثليث كان موجوداً في الوثنية اليونانية قبل ظهور النصرانية المحرفة بمئات السنين، ودخل التثليث على النصارى بالتدريج عن طريق بولص اليهودي المسمى شاول حينما اعتنق النصرانية بعد عيسى عليه السلام مباشرة؛ لأن بولص هذا كان من أشد المحاربين لعيسى عليه السلام، فهو يهودي حاقد متعصب، فلما مات عيسى استعمل طريقة اليهود، وهي نوع من الماسونية التي يستعملها اليهود إلى اليوم، أسلوب ماسوني، فادعى أنه صار نصرانياً ملهماً يوحى إليه، وأن عيسى يتصل به، وأنه يأخذ التشريع من لدنه، وأن عيسى أمره أن يبلغ رسالة الله من بعده، وفي ذلك الوقت كان النصارى يخفون دينهم، حتى الإنجيل يخفونه خوفاً من اليهود، فصار بولص زعيماً في النصارى؛ لأنه ادعى بين عشية وضحاها أنه صار نصرانياً، فأدخل فلسفة التعدد في الآلهة عليهم، وما قال بالتثليث الصريح، لكنه قال بالإنسانية والإلهية في عيسى عليه السلام بهذه الصيغة، قال: عيسى هو ابن الله وفيه إنسانية وفيه إلهية.
ثم بعدما دخل الملك الروماني قسطنطين النصرانية فرحت به طائفة من فرق النصارى التي صنعها اليهود؛ لأن اليهود بثوا الافتراق في النصرانية، فالفرق النصرانية التي صنعها اليهود فرحوا بدخول قسطنطين النصرانية وجعلوه إماماً في الدين، فبمجرد أن دخل النصرانية جعلوه زعيماً يتحكم في الدين ويعقد المجامع ويحكم ويقول ويؤصل ويضع العقائد للنصارى؛ لأنه نصراني وهو ملك، ففرح به هؤلاء وقالوا: ليقرر من الديانة ما يشاء.
فأخذ يقرر ما يشاء، مع أنه لا يفقه من الدين شيئاً، وإنما تحول من اليهودية إلى النصرانية فجأة فصار نصرانياً، لكن نظراً لأنه ملك قالوا: نستعطفه وليدخل في الديانة ما يريد، وبعد ذلك نناقش المسألة، فأدخل عقيدة التثليث، وتقديس الصليب الذي كان أول من أشار إليه بشكل صريح هو قسطنطين.
وبولص أشار إلى الصلب والصليب، لكن ليس على نحو ما عند النصارى الآن، فعقيدة النصارى في الصلب الآن التي هم عليها هي عقيدة وثنية يونانية، وكذلك التثليث عقيدة وثنية يونانية.
قال رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع، والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو: أنه لو كان للعالم صانعان، فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته، فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما.
والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:٢٢]؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان:٢٥]، {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[المؤمنون:٨٤ - ٨٥]، ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:٢٣] وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف، أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد ف