للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر ما أثر في لفظ الحد عن ابن المبارك]

قال رحمه الله تعالى: [وسيأتي في كلام الشيخ: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه)، فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده؛ لأن المعنى أنه غير متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم.

سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه، قيل: بحد؟! قال: بحد.

انتهى.

ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته، وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد؛ فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة].

هذا يصلح مثالاً لما ذكرته سابقاً، وهذا المثال كله ورد تفصيله على ألسنة السلف، وهو كلمة الحد، فقد يأتينا إنسان متفلسف فيقول: الله عز وجل منزه عن الحد، فنستفصل منه، ونقول له: ماذا تريد بالحد؟ إن أردت بالحد أن الله عز وجل منفصل عن مخلوقاته ووجوده غير وجود المخلوقات وأسماؤه وصفاته وأفعاله غير أسماء وصفات وأفعال المخلوقات فنعم، فالله عز وجل يثبت له الحد بهذا المعنى، ولذلك قال ابن المبارك بإثبات الحد؛ لأنه كان في خراسان، وخراسان في وقت عبد الله بن المبارك اشتهرت فيها مذاهب الجهمية، والجهمية ينكرون أسماء الله وصفاته ويزعمون أن إثباتها يقتضي الحد، بل يزعمون أن إثبات العلو والفوقية والاستواء يقتضي الحد، يقصدون بالحد الذي ينفونه أن الله له وجود غير وجود المخلوقات؛ ذلك أن مذهبهم كما قال الجهم: إن الله في كل شيء وفي كل مكان، قال ذلك حينما أشكل عليه قول سني له: أين ربك الذي تعبد؟ هل تحسه؟ هل تراه؟ هل تعقله؟ إلى آخره فجلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول، ثم خرج ببدعة وقال: هو ذا في الهواء، هو ذا في كل شيء! تعالى الله عما يزعم.

إذاً: هم لا يعتقدون أن لله وجوداً غير وجود المخلوقات، فمن هنا ينفون الحد، أي: أن يكون لوجود الله حد ينفصل عن وجود المخلوقات، فلما نفوه أثبته ابن المبارك رداً عليهم، فقالوا: بحد؟ قال: نعم بحد.

أي: أن الله وجوده غير وجود المخلوقات، هذا معنى الحد في قول ابن المبارك، فهذا المعنى للحد أثبته السلف، وبعضهم أطلق لفظ الحد من باب الإخبار لا من باب الإثبات، وهذه المسألة ينبغي أن نعرف فيها ألفاظ السلف التي أثبتوا بها ما لم يثبت في الكتاب والسنة، فهم يقصدون الإخبار ولا يقصدون الإثبات، فهم لا يقصدون الوصف، كإثبات الصانع، وكالجهة، والقِدَم، والحد، فهذه يتكلم بها بعض السلف من باب التفسير والبيان والإخبار، لا من باب الاسم أو الصفة.

فـ ابن المبارك حينما قال: (بحد)، يقصد أن الله عز وجل وجوده غير وجود مخلوقاته، فهذا المعنى من الحد مثبت، لكن لفظ الحد نستغني عنه.

ثم قال بعد ذلك: [ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره]، فهذا القدر مثبت عند السلف، أما الحد بمعنى العلم والقول، بمعنى أن نحد الله بعلمنا بأن نعلم كيفية وجود الله، أو نقول بذلك؛ فهذا ننفيه.

فقوله: [وأما الحد بمعنى العلم والقول] يقصد الحد بمعنى العلم بالكيفية أو القول عن الكيفية، فهذا منتف بلا منازعة.

إذاً: إذا ورد عن السلف نفي الحد فإنهم يقصدون الكيفية، وإذا ثبت عن السلف إثبات الحد فإنهم يقصدون المفاصلة والمباينة، وأن وجود الله عز وجل ليس كوجود مخلوقاته.