للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اشتمال حديث جبريل على أركان الإيمان واشتمال حديث وفد عبد القيس على أعماله]

قال رحمه الله تعالى: [تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته؛ حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي وسأله عن الإسلام، فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً وسأله عن الإيمان، فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.

وسأله عن الإحسان، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١]، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام التي في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:١٣٦] الآية، والتي في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:٦٤] الآية، وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته، حيث قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)].

هذا الحديث تكلم عنه الشارح، لكن في كلامه شيء من الغموض في مسألة الجمع بين الحديثين: حديث تفسير الإيمان بالأركان الستة، الذي هو حديث جبريل، وحديث تفسير الإيمان بأركان الإسلام، الذي هو حديث وفد عبد القيس، فهذان الحديثان بينهما فرق في تفسير الإيمان، ويجمع بينهما ما ذكره أئمة السلف من أنه في حديث جبريل فسر الإيمان مع الإسلام، أي: جاء ذكر الإيمان والإسلام في حديث واحد؛ لأن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام أولاً، ثم سأله عن الإيمان ثانياً، ثم سأله عن الإحسان، والإسلام والإيمان والإحسان أمور متداخلة، فأخصها الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام، وكأنها دوائر ثلاث: الدائرة الصغرى الخاصة الإحسان، والدائرة الوسطى الإيمان، والدائرة الكبرى الإسلام، هذا عندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة، فعندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة فسر كل لفظ بالمعنى الذي يخصه.

في الحديث الثاني ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، إنما ذكر الإيمان، فقال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟) ففسر الإيمان مفرداً بما يتضمن الإسلام والإحسان، كما هي القاعدة عند أهل العلم؛ أنه إذا ذكر مفرداً يتضمن الإسلام والإحسان، وإن كان الإحسان قد يخرج، لكن هذا أمر لا نجزم به، فالتضمن هو الأصل، بمعنى أنه قد يكون الإنسان مؤمناً مسلماً ولكن ليس بمحسن، فهذا استثناء نحترز به احترازاً عند التفصيل، وإلا فالإيمان الأصل فيه أنه يتضمن الإحسان، ومع ذلك لا يلزم، والعكس هو الصحيح، فالإحسان لابد أن يتضمن الإيمان والإسلام، والإيمان لابد أن يتضمن الإسلام، لكن الإسلام لا يلزم أن يتضمن الإحسان ولا يتضمن الإيمان، بمعنى: قد يكون أحد ظاهره الإسلام وهو منافق، والله أعلم بحاله.

أعود فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بأركان الإسلام حينما ذكر الإيمان مفرداً، فلابد أن يتضمن الإسلام، فعلى هذا تطرد القاعدة عند التفصيل والإجمال، فعندما نجمل فتأتي الألفاظ وحدها يتضمن لفظ الإسلام الأمور الثلاثة، وكذلك لفظ الإيمان وكذلك لفظ الإحسان، وعندما يأتي كل لفظ مع الآخر فلابد أن يفسر بأخص معانيه، وكل معنى شرعي له خصوص وعموم، فالصلاة قد تطلق على نوعين من الصلاة: الصلاة الكاملة المؤداة على وجه صحيح، ومجرد الصلاة التي تبرأ بها الذمة فقط، فكلها تسمى صلاة، وهذه مقبولة وهذه مردودة، لكن كلها يسقط بها الفرض، فعلى هذا فإن تفسير الإيمان بأركان الإسلام جاء هنا لأن الإيمان ذكر وحده.

قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا].