للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دلالة أسماء الله وصفاته على وحدانيته وصدق ما أخبر به الرسول عنه]

قال رحمه الله تعالى: [فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته؛ فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟! ف

الجواب

أن الله تعالى قد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه].

هذا الكلام لـ ابن القيم، فهذه عدة مقاطع من كلام ابن القيم في مدارج السالكين، فهو ينقل أحياناً بإيجاز وأحياناً ينقل بعض المقاطع بكاملها، فالكلام هنا أراد أن يبين فيه معنى أن الله هو المؤمن والشهيد، وأن هذا المعنى لا يمكن أن ينصرف إلا إلى إثبات وحدانية الله تعالى من خلال ما ذكر؛ لأنا إذا قلنا بأن من أسماء الله المؤمن ومن أسماء الله الشهيد -مثلاً- فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يؤمن بغيره؛ لأن كل المخلوقات بحاجة إلى أن تؤمن بما هو أعظم منها، أليس كذلك؟ كل المخلوقات تميل وتنزع بفطرتها السليمة أو بغريزتها التي خلقها الله عليها إلى أن تؤمن بما هو أعظم وأكمل، فإذا كان الله هو المؤمن فلا يمكن أن يؤمن بما هو أعظم منه وأكمل؛ لأنه لا أعظم ولا أكمل من الله، فلابد من أن يكون معنى (المؤمن): الذي يجعل التصديق والإيمان في مخلوقاته لنفسه سبحانه، وكذلك الشهيد، وهذا ما أراد ابن القيم أن يقرره في هذه المقاطع.

قال رحمه الله تعالى: [ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء، واطلاعه عليه بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، وَمنْ هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره، ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟! ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته، والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص].

الخواص دائماً يطلقها ابن القيم رحمه الله وبعض الأئمة المتأخرين ويقصدون بها خواص المؤمنين الذين كمل إيمانهم مع فقه في الدين وعلم، أو الذين عندهم رسوخ في العلم مع قوة في الإيمان وقوة في اليقين، فهؤلاء هم الذين يدركون من مسائل الدين وفقه الإسلام ما لا يدركه عامة الناس ولا كثير من طلاب العلم، فالخواص هم الذين تجتمع فيهم صفات الإيمان مع صفات الفقه في الدين، وليس المقصود به مفهوم الخواص عند الصوفية أو الخواص عند أصحاب الأهواء أو المصطلحات الأخرى التي تنزع إلى أن تعطي الخصوصية لطائفة لا يستحقون هذه الصفة من أهل البدع.

إذاً: الخواص هم عباد الله المخلصون الذين اجتمع عندهم الفقه والعمل والإخلاص والتقوى والاستقامة.

قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله ولا يفعله.

قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٤ - ٤٧]، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.

ويُستَدل أيضاً بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:٢٣]، وأضعاف ذلك في القرآن، وهذه الطريق قليل سالكها].

يقصد بالطريق هنا: الاستدلال على الله تعالى بأسمائه وصفاته، فهذه طريق لا يدركها إلا الخاصة من أهل التقوى والاستقامة والفقه.

قال رحمه الله تعالى: [وهذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولاً وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض.

فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره؛ فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:٥١]].