[الآيات الواردة في بقاء الجنة وعدم فنائها]
وأما آيات بقاء الجنة.
فالأول: مثل قوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:٣٥].
فأخبر أنه دائم، والمنقطع ليس بدائم.
والثاني: مثل قوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:٥٤]، والمنقطع ينفد.
والثالث: قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:٩٦]، فأخبر أن ما في الدنيا من الخير ينفد، وما عند الله باق لا ينفد، فلو كان لما عند الله من النعيم آخر، لكان ينفد كما ينفد نعيم الدنيا، ولم يكن باقياً لا ينفد.
والرابع: مثل قوله تعالى في آيتين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:٨].
وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:٢٥].
كما قال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:٣].
قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص.
وذكروا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: غير مقطوع.
وعن مقاتل: غير منقوص أيضاً.
قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص، كما قال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:٣].
قالوا ومنه المنون؛ لأنه يقطع عمر الإنسان.
وعن مجاهد: غير محسوب.
وهذا يوافق ذلك؛ لأن ما ينتهي مقدر محسوب، بخلاف ما لا نهاية له فإنه غير محسوب.
وقد شذ بعض الناس فقال: غير ممنون عليهم، من جنس قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:١٧].
وهذا القول مع مخالفته لأقوال السلف والجمهور هو خطأ لوجوه: أحدها: أن الله يمن علينا بكل نعمة أنعم بها علينا، حتى بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧].
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِم} [آل عمران:١٦٤].
وقال أهل الجنة ما أخبر الله تعالى به في قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٥ - ٢٧].
وهذا قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:٤٣].
وقوله: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٧]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
والله تعالى في غير موضع يذكر آلاءه وإحسانه ونعمه على عباده، ويأمرهم أن يذكروها، ويأمرهم أن يشكروها.
والعبد قد نهي أن يمن بصدقته بقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:٢٦٤]؛ لأن المتصدق في الحقيقة إنما أحسن إلى نفسه لا إلى المتصدق عليه؛ فإنه لولا أن له في ذلك منفعة وأجراً وعوضاً لم يتصدق عليه، فصار كالذي يخدم المماليك بأجرة يأخذها من سيدهم ليس بمحسن إليهم.
وأيضاً فإن المصدق الله هو المنعم عليه بما يسره الله للإحسان إلى نفسه، وعليه أن يشكر الله تعالى ويرى أن الله هو المحسن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه، وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعوضه من الله، وإن نظر إلى المحسن إليه فهو المحسن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسناً إلى نفسه لا ظالماً لها.
فلهذا كان مَنُّهُ على المخلوق ظلماً أبطل به صدقته، والله هو المنعم على عباده حقيقة بالنعمة، والشكر عليها إذا أعانهم على شكره، وجعلهم شاكرين بنعمته، بثواب الشكر، فكل ذلك تفضل منه وإحسان من غير أن يكون له على ذلك عوض يأخذه من غيره، لا من المحسن إليه ولا من غيره فهو المنعم حقيقة، وإن كان له في الإنعام حكمة يحبها ويرضاها، فتلك الحكمة منه، فما لأحد عليه مِنَّة، وهو الجواد المحض، وهو سبحانه ليس كمثله شيء.
وللناس كلام في الجود والإحسان، ومن يفعل لحكمة ومقصود لحكمة هو مقصود هل هو جواد أم ليس بجواد؟ أم يفرق بين من يطلب عوضاً من غيره، فيحتاج إلى غيره، فيكون جوده من باب المعاوضة، وبين من لا يحتاج إلى غيره، بل هو الجواد بالنعم وبالحكم كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ولأنه لما قال تعالى: {