[الرد على المعتزلة بإثبات الرؤية فيما استدلوا به على نفيها من النصوص]
قال رحمه الله تعالى: [وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، وبقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] فالآيتان دليل عليهم، أما الآية الأولى: فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه: أحدها: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال].
المتكلمون يقولون: لا يجوز عليه كذا ويجوز منه كذا، ويقصدون بالجواز هنا الإمكان أو الوجود الذي هو الوقوع، فقولهم: (لا يجوز) يعني: لا يقع أو لا يليق ولا يحصل، فالمؤلف هنا أراد أن يقول: إنه لو كانت الرؤية مستحيلة كما يزعم المعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم فإنه لا يعقل ولا يقع من موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أعرف الناس بربه في وقته- أن يسأل ما لا يقع ولا يمكن، أو ما يكون مستحيلاً؛ لأن الأنبياء معصومون فيما هو دون ذلك، فكيف بهذا الأمر؟ فلا يظن بكليم الله -وهو موسى عليه السلام- أن يسأل ما لا يمكن أو أن يسأل المستحيل، لاسيما أنه متعلق بالله عز وجل، وهو من أعرف الناس بالله، فلو كانت الرؤية مستحيلة لما سأل موسى هذا السؤال، ولعصمه الله عز وجل من أن يسأل سؤالاً غير لائق بالله عز وجل؛ لأنه سأل سؤالاً متعلقاً بذات الله.
قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح عليه السلام ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله، وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦]].
هذا معناه أن الله عز وجل أنكر على نوح عندما سأل نجاة ابنه، مع أن هذه المسألة لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته، ومع ذلك أنبه الله عز وجل ووبخه، كيف يسأل نجاة ابنه وهو يعلم أنه كافر بالله؟! بمعنى أن نبياً من الأنبياء وعظه الله أن يسأل مثل هذا السؤال ونهاه، فلو كان موسى عليه السلام سأل أمراً لا يليق بالله وهو الرؤية، وكانت الرؤية مستحيلة ولا تصح لنبهه الله عز وجل على أن هذا لا يجوز، كما نبه نوحاً على ألا يسأل ما هو دون ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أنه تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، ولم يقل: إني لا أرى، أو: لا تجوز رؤيتي، أو: لست بمرئي.
والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً فقال: أطعمنيه فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل.
وأما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى.
يوضحه الوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟!].
معنى هذا أن الجواب الذي أجاب الله به سؤال موسى يدل على الإمكان، بمعنى أنه يمكن في الآخرة، لكنه في الدنيا غير وارد، فالجواب يدل على إمكان الرؤية في الآخرة، بدليل أن الله عز وجل حينما سأله موسى الرؤية ما قال: إني لا أرى، أو: لا تمكن رؤيتي، أو: لا تصح ونحو ذلك، إنما قال: (لن تراني)، ومعنى هذا أنه لن يراه بطاقته الموجودة؛ إذ ليس عنده القدرة والاستعداد في الدنيا للرؤية، ولم يقل: إني لا أرى، ولو قال: لا أرى لتحقق هذا في الدنيا والآخرة؛ ولأن (لن) تأتي مؤقتة بحسب الحال، فإذا تغير الحال تغير الجواب.
وضرب الشارح لذلك مثلاً في الفرق بين (لن) و (لا)، فلو أن إنساناً في كمه تفاحة ولقيه إنسان جائع فقال: أطعمني مما معك، وليس في نيته أن يطعمه أبداًَ؛ فالجواب على أحد احتمالين: إما أن يقول: لن تأكله.
بمعنى أنه ما جاء الجواب على أنه لا يؤكل، إنما جاء الجواب على أنه منعه لعارض آخر، إما لحاجة وإما لغيرها.
لكن لو قال: الذي معي لا يؤكل فالجواب غير صريح وغير جيد وغير مناسب؛ لأنه يكون كذب عليه، فإذا قال: لن تأكله فربما أطمعه، فلو كان فيه القوة لاغتصبه وأخذ الذي معه؛ لكن إذا قال: لا يؤكل فربما يتصور أنه حجر أو نحو ذلك.
فالمقصود أن الفرق بين (لن) و (لا) في مثل هذا الجواب أن (لن) يعني الامتناع لأي عارض، و (لا) في مثل هذه الحالة لا تعني الامتناع لعارض، فلذلك لم يأت الجواب بـ (إني لا أرى) أو نحو ذلك، إنما جاء بلفظ (لن تراني).
قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء].
هذه الجملة فيها غموض، وكل كلام المتكلمين فيه غموض ومحارات وألغاز وأوهام، لكن أحياناً قد يضطر بعض أهل العلم إلى أن يخوضوا بمصطلحات المتكلمين للرد عليهم بها، أو رد شبهاتهم، وإلا فمن غير اللائق أن تكون مثل هذا العبارات ومثل هذه الأمثال في كتب أهل السنة والجماعة.
فالشارح في الوجه الخامس