[المحمود من الخوارق والمذموم والمباح]
فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح؛ فإن كان المباح الذي فيه منفعة كان نعمة، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها.
قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة.
قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا سلف الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله، حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وأمارة القدرة يقيناً؛ فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة].
هذه إشارة إلى أن تعلق بعض الناس بالكرامة، واعتبارها هي دليل الصلاح أو دليل التوفيق هذا خطأ، خاصة من يطلبون الكرامات ويلتمسونها، ولذلك الذين يجعلون كثرة الكرامات دليلاً على الاستقامة، أو أن قلة الكرامات دليل على عدم الاستقامة وعدم التوفيق، هؤلاء يخطئون؛ فإن الكرامة هبة من الله عز وجل يهبها لمن يشاء بقدر، أيضاً لم تكن من الأمور الذي يفتن بها الصالحون، ولذلك نجد أن الكرامات عند أولياء الله الصالحين من الصحابة رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم قليلة.
ولما وجد من العباد والجهلة والمبتدعة من كثر تعلقهم بالكرمات، كثرت عندهم الكرامات والمخارق أيضاً، واختلطت عليهم الكرامة بالخوارق وبالمخارق والدجل، ولذلك فتن بعضهم.
وهناك طائفة من الدعاة الذين ينتسبون لبعض الجماعات يتعلقون كثيراً بالكرامات، ويجعلونها دليلاً دائماً أو غالباً على التوفيق والصلاح والاستقامة، وهذا خطأ، فكونهم يفرحون بالكرامة هذا أمر طيب، وإذا حدثت الكرامة لمسلم استبشر بها، لكن أن يطلبها ويتعلق بها قلبه، بحيث يعتمد عليها كثيراً، وأن يشيعها ويجعلها دليلاً على الاستقامة والتوفيق، فهذا خطأ؛ لأن الإكثار من ذلك ليس هو من سبيل المؤمنين، ولم يكن الإكثار من الكرامة أو التنويه عنها أو التماسها والتعلق بها من السنة، وإنما كما قال الشارح: إن أكبر كرامة للمؤمن أن هداه الله عز وجل ووفقه وسدده وأعانه، هذه بحد ذاتها كرامة، فلا ينبغي أن يبحث عن غيرها، إلا إن جاءت بدون طلب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليستبشر بها خيراً، لكن أن يلتمسها ويتعلق بها خاطره، ثم يبدأ يتعلق بها في مناماته ورؤاه، ويتعلق بها في أحواله الأخرى، فهذا مما يضعف التوكل على الله عز وجل، ويروج البدعة في كثير من الأمور، ويضعف جانب الصلاح والاستقامة في الظاهر.
قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً، فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة، ومكروهاً لله أخرى، وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن].
يشير المؤلف رحمه الله إلى جانب آخر مما يلتبس على الناس بالكرامات، وهو جانب المؤثرات المعنوية والمؤثرات النفسية وتعلق النفس بها، وجعلها من ضمن الأسباب.
والمقصود بهذا أن هناك من يتوسع في مفهوم الخوارق، حتى يستخدمها في ضر الناس ونفعهم، أو في كف الشر عنه، أو في جلب الخير إليه، كما يحدث من بعض الرقاة الجهلة، ويحدث من بعض المشعوذين وبعض الدجالين أو بعض المبتدعة، أو غيرهم من الذين عندهم نوع من الصلاح، لكن عن جهل، فهؤلاء قد يستخدمون بعض التأثيرات النفسية، أو يستخدمون أحياناً الجن، أو يستخدمون الرقى في التأثير على الخصم.
ولذلك تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن، يعني: بغير سلاح مباشر، كمن يستخدم العين للقتل، وهذا يوجد عند بعض الحسدة مرضى القلوب، يعين الناس حتى يقتل بعضهم، نسأل الله العافية.
أو يستعين بعائن، بأن يذهب إلى عائن مشهور ممن لا يتقون الله، من الجهلة المركبين في الجهل، ويكون مشهوراً بالعين، فيقول عن لي فلاناً، أو افعل معه كذا، أو سأصفه وأنت اصرف له العين إلى آخره! فيحدث أحياناً قتل للنفس، ويحدث مثل هذا عن طريق الجن أيضاً، بعض الناس يستعين بالجن استعانة يظن أنها مشروعة على قتل خصومه، أو قتل من يكرههم ومن يحسدهم، هذا كله من القتل بغير سلاح، واختلف أهل العلم هل فيه قود أو ليس فيه قود؟ هذه مسألة خلافية مبنية على عدم وجود القرينة أو الدليل القطعي على التعمد في القتل؛ أما إذا وجد التعمد في القتل بهذه الوسيلة فلا شك أنه من باب القتل الذي توعد الله به من يفعله، إنما يبقى هل يكون فيه قود (قصاص) أو لا يكون؟ والشاهد عندنا أن هؤلاء يستعملون هذه المخارق، وهذه الأساليب الدجلية، ويظنون أنها مشروعة في التأثير على خصومهم، أو في الإضرار بالآ