إثبات الإشهاد الفعلي استنطاقاً والرد على الشارح في نفيه
يظهر لي أن هذا الكلام الذي وجه به الشارح رحمه الله رد القول الأول فيه نوع تكلف؛ لأمور: منها ما ذكرته من أنه ليس هناك ما يمنع من أن يكون الإشهاد حدث تفصيلاً وبقيت آثاره.
والأمر الآخر: أن كل ما ذكره من هذه الاعتراضات ينصب على مسألة واحدة، وهي: أن الإشهاد الفعلي الذي تم لا يوجد له ذكر عند البشر الآن، وأنه كيف تقوم الحجة به عليهم وهم لا يتذكرونه، وهذا مردود بما ذكرته وبأمور أخرى: أولها: أنه جاء النص -وهو الحديث الصحيح- في الخبر عن الإشهاد تفصيلاً على نحو ما جاء في الحديث، وعلى هذا فيلزم أن نسلم بالنص، فما دام قد ثبت فلا بد أن نسلم بأن التفاصيل التي وردت فيه حق، وأنها جرت، وهي أمور غيبية لا نستطيع أن نتحكم فيها برد ولا تأويل ولا بتحكم بأي نوع من أنواع التحكم، وإنما لا بد من التسليم والتصديق بأنها حدثت فعلاً.
ثم إن ظهر لنا نوع من التعارض بين ظاهر الآية وظاهر الحديث فلنلتمس وجوه التوفيق بين الأمرين، ووجوه التوفيق ميسورة على نحو ما ذكرت، فلا داعي للتكلف.
الأمر الثالث: أن هذه النزعة -وهي نزعة الهروب من إثبات أمر غيبي- نزعة كلامية ما كان ينبغي أن يقع فيها أحد ممن ثبت لديه الحديث، لكن يظهر أن الشارح -والله أعلم- ما ثبتت عنده أحاديث الإشهاد، فركز على مفهوم الآية.
وقد أشار إلى شيء من هذا حينما أشار إلى أن هذه الأحاديث موقوفة على بعض الصحابة، وإلا فلا يتصور من مثل ابن أبي العز رحمه الله أن يتكلف رد أمور ثبتت بالأحاديث، لا سيما أنه ممكن جداً الجمع بين مدلول الحديث ومدلول الآية.
ثم إن أكثر ما ذكر من وجوه الرد إنما يتماشى مع قواعد العقلانية قديماً وحديثاً، وهذه النزعة نزعة عقلانية جاءت من أهل الأهواء من أمثال القدرية والمعتزلة والجهمية وأهل الكلام، ولذلك نجد أن أكثر من نصر هذا القول -وهو إنكار الإشهاد الفعلي- هم أهل الكلام، وقد قال بشيء من ذلك بعض السلف، لكن بدون تكلف، قالوا به لأنهم وجدوا له تفسيراً وتأويلاً يرون أنه تقتضيه معاني اللغة فقط، وإلا فما ردوا هذا الرد المباشر.
إذاً: فهذه النزعة نزعة عقلية ما كان ينبغي أن يقع فيها أهل السنة أو أهل العلم المقتدى بهم في الدين، وهي نزعة رد النصوص بمثل هذه التأولات والاحتمالات والاستبعادات العقلية التي لا تقاوم الأخبار الغيبية، فالأخبار الغيبية يؤمن بها كما جاءت، فإن لم نجد لها تفسيراً من عقولنا، ولم نجد وجوهاً نجمع بها بين نص ونص، فلنتهم عقولنا، ولا نتهم النص ليرجع الأمر إلى الشك في نص ثابت، ومع ذلك يبقى احتمال أن أكثر الذين ردوا القول الأول من أئمة العلم لا يصححون الحديث، أو لم يبلغهم المسند الصحيح منه، فربما بلغتهم بعض الآثار الضعيفة أو الموقوفة أو نحو ذلك.