[وجه الخير فيما يبتلي الله تعالى به عباده من ظلم الظلمة]
قال رحمه الله تعالى:[وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذاباً عليه بالمعجزات التي أيد بها الصادقين؛ فإن هذا شر عام للناس يضلهم فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخراهم.
وليس هذا كالملك الظالم والعدو؛ فإن الملك الظالم لابد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك خير في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم، ويثابون على الصبر عليه، ويرجعون فيه إلى الله، ويستغفرونه ويتوبون إليه].
هذا فيه إشارة إلى الفارق بين فهم أئمة السلف أئمة السنة وفهم أهل الأهواء فيما يتعلق بالصبر على المظالم والجور والأثرة، وما يتعلق بالتعامل مع الولاة، فهو أشار إلى ذلك هنا بهذه المناسبة ليبين أنه فعلاً قد يحدث من الملوك أو من بعض السلاطين شيء من الظلم والعدوان والأثرة، لكن ورد الصبر على ذلك، بمعنى: يجب ألا يؤدي ذلك إلى الخروج، ولا يعني بذلك عدم النصح وعدم إقامة الحجة أو عدم إنكار المنكر بالطرق المشروعة، لا يقصد هذا، وإنما يقصد أن ما يحدث من هذه الأمور -الظلم والأثرة والعدوان من بعض السلاطين- لا يقتضي بالضرورة أن يكون شراً كله، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ظلم الولاة وجورهم وأثرتهم، وقال:(إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، ونحو ذلك من الأحاديث الواردة، بل إنه أمر بالصبر حتى مع جلد الظهر وأخذ المال:(وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) ونحو ذلك من الأحاديث، وأمر بالصبر حتى على من لا يرى الناس أنه مستحق للولاية كالعبد الحبشي ونحو ذلك.
المهم أن الشاهد هنا أن فيما يحدث من مظالم وعدوان قد يكون شراً، لكنه شر لابد من الصبر عليه، وقد يكون وراءه خير، ثم إنه ليس شراً محضاً، نعم لو كان باختيار الناس لوجب أن يختاروا الأفضل وأن يبتعدوا ولا يقعوا فيما يسبب الظلم والعدوان، لكن الكلام فيما يقدر عليهم وما يكتب لهم في مصائرهم؛ وذلك أن الملك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فهذا الأمر هو الفارق بين فهم السلف وغيرهم، ولذلك قالوا هذه الكلمة: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وهذه قاعدة -في الحقيقة- صحيحة يصدقها الشرع والعقل، فلو افترضنا أن تنفلت أمور الناس ليلة واحدة بلا إمام لفسد دينهم ودنياهم، وما استطاع الإنسان أن يؤدي حتى صلاة الجماعة أو غيرها، وكثير من ضرورات الدين -كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجمعة والجماعات وإقامة الحدود والجنائز وغيرها- كلها لا يمكن أن تؤدى بغير ما يحكم دنيا الناس من إمامة ولو من سلطان ظالم، فهذه الحقيقة هي التي يختلف فيها فهم السلف عن فهم غيرهم من الذين لا يصبرون على الجور ويعدون الجور من المنكرات التي يجب إزالتها بلا حدود ولا ضوابط ولا شروط.
قال رحمه الله تعالى:[وكذلك ما يسلط عليهم من العدو، ولهذا قد يمكن الله كثيراً من الملوك الظالمين مدة، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم، بل لابد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة].
هذا ينطبق أيضاً على مثل الأمر بقتال الخوارج، فالخوارج ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم دون غيرهم من أهل الأهواء، مع أن أهل الأهواء من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم أشد كفراً من الخوارج، ومع ذلك ما جاء الأمر إلا بقتال الخوارج؛ لأن منهجهم ومسلكهم يفسد الدين والدنيا، فهم لا يستريحون حتى يقتلوا الناس أو يقتلهم الناس، فلذلك جاء الأمر بقتلهم؛ لأن مناهجهم تفسد دين الناس ودنياهم، وكل منهج يكون كذلك يكون أضر على الناس، وهذا هو السبب في حث السلف على الصبر على الظلم والجور؛ لأن الظلم والجور بذنوب العباد، فالعباد لو استقاموا على دين الله عز وجل وحققوا التوحيد، وحققوا أوامر الله عز وجل واجتنبوا نواهيه لا يمكن أن يولى عليهم من لا يصلح لهم، فهذا لا يتأتى أبداً شرعاً ولا عقلاً، فما يأتي الناس شيء من الجور والظلم من الملوك والسلاطين إلا بسبب ذنوبهم، ولا يمكن ولا يتأتى أن يكون هناك مجتمع مثالي مسلم كمجتمع الصحابة فيولى عليه ظالم، لا يمكن هذا، ولذلك لما قال أحد الناس لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم اختلف الناس عليك وقد اتفقوا على أبي بكر وعمر؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كانا ولاة على مثلي، وأنا ولي على مثلك.
والظاهر -والله أعلم- أن الذي سأل علي بن أبي طالب من أهل الأهواء، ولا أجزم، لكن الظاهر من السؤال هو هذا.