[بيان استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل]
قال المصنف رحمه الله تعالى:[ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها].
تكلم الشارح عن استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل، فالعقول لا تستقل بمعرفة العقيدة ولا بإدراكها على وجه التفصيل، وكأنه بذلك يشير إلى أن من أصول العقيدة ما تدركه العقول على وجه الإجمال، وهذا صحيح في الجملة، ومع ذلك لا تستغني العقول عمَّا يرد من الهداية ومن البيان ومن الأخبار في أمور الغيب عن الله سبحانه وتعالى كما بعث بذلك رسله؛ لأن العقول وإن أدركت بعض الإجماليات إلا أن هذا الإدراك لا ينفع، بمعنى أن تكليف البشر وحسابهم مبني على ما جاء به المرسلون في توحيد الله تعالى، وفي شرعه وأمره وخبره ووعده ووعيده.
وإدراك العقول للأمور الإجمالية هو إدراك فطري يدركه الإنسان بفطرته وعقله السليم، لكن مع ذلك لا يمكن أن يدركه كل البشر، بمعنى أنه لو ترك البشر بلا رسالات ولا أنبياء لأدركت طائفة قليلة منهم قضايا إجمالية عامة من أمور الدين، وهذه القضايا الإجمالية لا ينتفع بها البشر، مثلاً: الفطرة والعقل السليم لا بد لهما من أن يدركا ضرورة وجود الخالق لهذا الخلق، ومع ذلك قد تعمى عقول كثير من البشر عن هذا الإدراك، والعقل السليم والفطرة قد يدركان ضرورة البعث، لكن أكثر البشر لا يدركون هذا؛ لأن هذا أمر خفي لا يدرك إلا بتأمل قوي وبعقول راجحة كبيرة وبذكاء، وهكذا، فالأمور الإجمالية التي تدرك بالعقول والفطرة لا تفيد البشر؛ لأن البشر يحتاجون إلى أمور تفصيلية، سواء ما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحقوقه، وما يتعلق بتفصيلات الشرع، فمن المحال أن تستقل العقول بمعرفة حقوق الله تعالى وشرعه وما يرضيه على وجه التفصيل.