[نظرة في حكم الشارح على الخلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة بأنه خلاف صوري]
قال رحمه الله تعالى:[والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد].
وهذا الكلام أيضاً مما تساهل فيه الشارح وأراد أن يتوسط حسب رأيه ووجهة نظره بين الطحاوي والأحناف من جهة وبين أهل السنة من جهة أخرى، فتصوير الخلاف بأنه صوري مطلقاً غير صحيح، وكذلك تصوير الخلاف بأنه لفظي مطلقاً غير صحيح، فهو صوري ولفظي من جهة، لكنه اعتقادي وعلمي من جهة أخرى، أما كونه صورياً ولفظياً فهذا من جهة الأعمال وثمرة الأعمال، أي: جزاء الأعمال، بمعنى أن أبا حنيفة وأتباعه -سواء الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، والذين قالوا: هو التصديق والقول- عندهم للأعمال اعتبار كبير، فلا يتساهلون في الأعمال، ويرون أنها من لوازم الإيمان، وأن الإخلال بالأعمال يترتب عليه الوعيد، وأن الزيادة في الأعمال عليها الثواب العظيم، فمن ناحية العمل يكون الغالب أن النزاع لفظي، وهذا عند الكبار الأوائل منهم الذين في عصر السلف في القرن الأول والثاني تقريباً، أما المتأخرون منهم فصار عندهم نوع تساهل في فروع هذه المسألة، وانعكس هذا المفهوم عندهم في التساهل في الأحكام والأسماء والأعمال وثمرات الأعمال انعكاساً مباشراً وغير مباشر، وأقصد بذلك أن متأخري المرجئة تساهلوا في مسألة لوازم الأعمال من الولاء والبراء، ومن تحقيق الوعيد، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، بخلاف الأولين، فـ أبو حنيفة رحمه الله ومن كان في زمنه وقبله كانوا لا يتساهلون في مسألة الأعمال، وعندهم من الورع ومن التزام السنة ما يجعلهم لا يخلون بمنهج الولاء والبراء، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بلوازم العمل من حيث الوعيد ونحو ذلك.
إذاً: الخلاف عند الأوائل في الجانب العملي صوري في نهايته وثمرته، لكن في الجانب الآخر -وهو الجانب الاعتقادي- لا شك أن هناك فرقاً كبيراً، ولذلك جعل أهل السنة بإجماع المسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قولهم بأن الإيمان قول وعمل، وإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وصار ذلك من أصول العقيدة يقررونه في كتبهم، ويدرسونه ويحشدون له الأدلة، وكتبوا في ذلك مجلدات تقريراً للحق، فالسلف لا يتكلمون بالفضول، وهم أكثر الناس تورعاً عن الكلام والتأليف في فضول الأمور، فقد عنوا بمسألة الإيمان عناية باهرة وكبيرة وعظيمة جداً، أي: إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الأعمال جزء من الإيمان.
وترتب عليها من الجانب الاعتقادي القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولذا فالمرجئة يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فصارت هذه المسألة من الناحية الاعتقادية والعلمية من أكبر المسائل عند أهل السنة والجماعة، وربطوها بالتي قبلها، ثم جاءت مسألة الاستثناء في الإيمان، وصارت من أساسيات العقيدة؛ لأنها فرع عن القول بأن الإيمان تصديق أو أنه تصديق وعمل، فالذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق والقول؛ قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنك إذا صدقت لا تستثني، والسلف حينما قالوا بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، أجازوا استثناء في الإيمان؛ لأن العمل مرتبط بالعبد، فإذا كان موقناً بالله عز وجل عاملاً بمقتضى الشرع؛ فليقل: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد التصديق اللغوي، ومجرد الإقرار.
فعلى هذا فالخلاف من الناحية العملية عند الأوائل لفظي فعلاً، لكنه عند المتأخرين من الناحية العملية لم يعد لفظياً، أما من الناحية الاعتقادية والناحية العلمية فإن الخلاف ليس بلفظي، بل ترتب عليه أمور خالفت مقتضى النصوص الصريحة عند السلف، والسلف حينما قرروا أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان، حينما قرروا ذلك قرروه لأن النصوص وردت بذلك، فلا بد من حماية النصوص وقواعد الشرع وأصول الدين من أن تنتهك وتختل مفاهيمها عند الناس لمجرد مجاراة إمام غلط أو زل.