[الرد على شبهة المتكلمين في الجمع بين ما ورد في الكتاب والسنة ومقررات العقول]
قبل أن يأتي بالأمثلة نقف عند هذه المسألة وقفة يسيرة حول إشارته إلى أن شبهة المتكلمين الذي خاضوا في أمور العقيدة وأمور الغيب أنهم أرادوا أن يجمعوا بين ما ورد في الكتاب والسنة، وبين مقررات العقول، زعماً منهم بأنه ما دام الكتاب والسنة لا يعارضان العقول؛ فلابد من الجمع فيما يظهر التعارض بينهما فيه.
وهذا أمر مبني على تصور فاسد أصلاً، وسيأتي سبب هذا التصور الفاسد في ذكر حالهم، فهو مبني على قولهم بأن هناك من مقررات العقول ما يتعارض مع ما ورد في الكتاب والسنة، وأنه لابد من الجمع بين هذا التعارض، فلما أرادوا الجمع ما جعلوا الكتاب والسنة هما الحكم، إنما جعلوا مقررات العقول هي المحتكم، فما وافقها أخذوا به بزعمهم وظنهم، وما خالفها من الكتاب والسنة أولوه.
مع أن الأصل -كما سبق- أنه لا يتوهم أبداً، ويستحيل في ضوء الفطر والعقول السليمة أن يكون هناك تعارض بين ما جاء في الكتاب والسنة وبين العقول السليمة والفطر المستقيمة؛ لأن هذا من أمر الله وخبره، وهذا من خلق الله، ولا يمكن أن يتعارض خلق الله مع أمره وخبره أبداً.
إذاً: قد يرد التعارض، بمعنى أنه قد يظن ظان أن هناك تعارضاً، فإذا ورد فإنما هو شبهة في ذهن المتوهم، وهذه الشبه تحتاج إلى دفع، وأسلوب دفعها ليس الجمع بين الكتاب والسنة وبين أوهام البشر، بل رد كل ما يرد عن البشر إلى الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب السنة أخذنا به، وما لم يوافقهما رددناه، وما أشكل علينا توقفنا فيه، على أن نسلم بأن ما جاء في الكتاب والسنة حق، وأن سبب الإشكال هو قصور عقولنا عن إدراك معاني الكتاب والسنة.
إذاً: لا يمكن أن هناك تعارض، وإذا تصور أحد من الناس أن هناك تعارضاً بين الكتاب والسنة وبين ما في ذهنه وعقله أو ما يسمعه ويقرؤه؛ فإنما هذا توهم في ذهنه وفي عقله القاصر لا في الوحي، ولا يمكن أن يكون الوحي محكوماً عليه أبداً بقصور البشر وزبالة أذهانهم؛ لأن الله عز وجل كامل، وكلامه كامل، والوحي جاء من الله، وهو معصوم، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يقول، والمعصوم لا يمكن أن يتطرق إلى ذهنه الخطأ والنسيان والسهو، فضلاً عن ضعف الرأي أو القول بما يتعارض مع العقول.
إذاً: فالمتهم هو عقل البشر المحدود قطعاً، ولا يمكن أن يرد النقص أو التقصير في كلام الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا سلمنا بهذا المبدأ -وهو مقتضى الإسلام، ومقتضى التسليم والإيمان- فإنا سنحكم بأن كل كلام جاء في هذه الأمور بغير ما ورد في ألفاظ الكتاب والسنة إنما هو باطل قطعاً، وإن التبس فيه الحق بالباطل فهذا الالتباس يفصل فيه، فيرد الحق إلى الكتاب والسنة، والباطل يرد على أهله، ويرد على صاحبه.