[ذكر خبر سؤال هرقل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]
قال المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم: [وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام؛ طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، وسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا: لا، قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا، وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم، وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً، وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا، وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه، فقالوا: يدال علينا مرة وندال عليه أخرى، وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة، فقال: سألتكم هل كان في آبائه من ملك؟ فقلتم: لا، قلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا، فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم.
وهم أتباع الرسل، يعني: في أول أمرهم، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون.
وكذلك الإيمان حتى يتم].
يعني بذلك أن الإيمان بدين الأنبياء -وهو دين الفطرة ودين التوحيد- لا يدخله في الغالب إلا من هو مقتنع به، ثم إنه ينسجم مع الفطرة ومع العقل السليم ومع حاجة البشر، فالإنسان إذا استجاب وهداه الله للإيمان وذاق حلاوة الإيمان؛ فإنه لا يمكن أن يخرج منه أبداً، فمن هنا لم يعهد أن أحداً ممن دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام عن قناعة وعن يقين وإيمان ارتد، خاصة في أول الإسلام، أما بعد ذلك حينما دخل الناس رغبة ورهبة فقد وجد من ارتد؛ لأن من أسباب دخول كثير منهم إما التقليد واتباع الكبار، وإما الرغبة حينما بدأت الأطماع في الغنائم والمصالح، وإما الرهبة من السيف، وهذا كان بعد أن أثخن النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، أما قبل ذلك فلا أحد كان يدخل في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تلك الحال إلا عن قناعة، فمن دخل عن قناعة وذاق حلاوة الإيمان لا يمكن أن يعدل عنها إلى غيرها.
قال: [وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشتة القلوب لا يسخطه أحد.
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق؛ فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف.
وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون؛ علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
] قال رحمه الله تعالى: [والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩]، الآيات، وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:١ - ٢]، الآيات.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول].
هذا فيه إشارة إلى أن من سنن الله تعالى في النبيين وأتباعهم أنهم لا بد من أن يبتلوا على قدر إيمانهم، والابتلاء أنواع، وأشده أن يواجهوا من أقوامهم وممن حولهم الصدود والإعراض، وربما يصل الأمر إلى القتال، كما حصل لجمع من الأنبياء الذين ما انتشرت دعوتهم إلا بقتال.
إذاً: فال