قوله:(وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل).
قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:١١٥]، فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر.
وجماع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ].
هذه جملة من أصول الأعذار التي يعذر بها المخطئ المجتهد، أو العالم إذا زل، فإذا زل العالم فلا نتبعه على زلته، بل ينبغي أن يحذر الناس من زلة العالم، لكن لا نلغي قدره واعتباره وإمامته في الدين، كما يفعله كثير من قليلي الفقه، من أصحاب العواطف، الذين إذا زل العالم أو زل طالب العلم ألغوا اعتباره وجرحوه، وهجموا عليه، وسلخوه من الأمة، هذا خلل شديد، بل فيه أحياناً خروج عن سبيل المؤمنين، أي: عدم إعذار العالم المجتهد إذا زل، لكن لا يتابع على زلته، كما أشار الشارح هنا في شرحه لكلام الطحاوي في قوله:(وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) هذا تقرير أصل من أصول السلف أهل السنة والجماعة، يجب أن يعيه طالب العلم جيداً، وهو أن سبيل المؤمنين هو جزء من الدين، والمقصود بسبيل المؤمنين أي: المناهج التي عليها أئمة الهدى: المناهج في الدين، المناهج في المصالح العظمى، المناهج فيما يتعلق بوسائل الاجتهاد، المناهج فيما يتعلق بأصول تعامل الناس مع بعضهم، تعامل الناس مع علمائهم، تعامل الناس مع ولاة الأمر منهم، تعامل الناس مع المصالح العظمى، أو الأضرار الكبرى التي تتعرض لها الأمة، هذه كلها تسمى: سبيل المؤمنين، هذا السبيل أصله هو نهج العلماء من خلال استنباطهم لفقه الكتاب والسنة، ولذلك يعتبر سبيل المؤمنين جزءاً من العقيدة التي نعبر عنها بمناهج السلف، فمنهج أهل السنة والجماعة هو سبيل المؤمنين، ليس فقط في العلم والاعتقاد كما يظن بعض الناس، لكن أيضاً في العمل والتعامل، وهذه نقطة مهمة؛ لأن كثيراً من الذين ينتسبون لأهل السنة والجماعة، تجدهم من المتضلعين في العلم والاعتقاد، لكنهم في العمل وفي التعامل يكسرون مناهج السلف كسراً، ويصادمونها صدماً، بل ربما أحياناً يعملون بما يشوهها، ويعملون بضدها.
وهذه مسألة مهمة وقع فيها كثير من المنتسبين للسلفية، والمنتسبين لأهل السنة والجماعة، تجدهم في الناحية العلمية النظرية لعقائد السلف من العالمين الراسخين في هذا الجانب، لكن في جانب التعامل هم في واد والسلف في واد آخر، ولذلك أقول: إن العلم هو الاعتقاد، والعمل به هو سبيل المؤمنين، ولا يختلف هذا السبيل وينفصل بعضه عن بعض، وإشارة المؤلف هنا والشارح تدل على أن المقصود توجه علماء الأمة ونهجهم في أمر من الأمور، سواء كان من أمر الدين، أو كان من أمر الدنيا الذي استقر فيه صالح الأمة، فإن نهجهم وما يتفقون عليه أو ما يتفق عليه جملتهم هو سبيل المؤمنين، ومن حاد عنهم فهو متوعد بالوعيد الذي ذكره الله عز وجل في الآية، فلذلك يجب أن يحذر طالب العلم من مخالفة نهج العلماء، أو الازدواجية في النظرة إلى العلماء، فتجده يأخذ ما يحلو له من الأمور العلمية، ويقول: العلماء في الجوانب العلمية والاعتقادية على العين والرأس، لكن في العمل، وفي تقدير مصالح الأمة، وفي النظرة إلى الأحداث ليسوا قدوة، أقول: هذه مصادمة لمنهج السلف في اتباع سبيل المؤمنين، وربما يقع فيها كثير من الناس وهو لا يشعر، وربما يتعذر بمعاذير هي من زلات العلماء، ولذلك نبه الشارح إلى هذه المسألة، قد يخالف سبيل المؤمنين عالم راسخ، لكن لا يكون عمله حجة، إنما نلتمس له العذر ولا نتابعه، وأمثلة ذلك كثيرة من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا، كثير من الراسخين في العلم يجتهد اجتهاداً يخرج به عن سمت العلماء، وقد يكون له أحياناً موقف عملي هو مخالف لسبيل المؤمنين، فيجب ألا نتبعه؛ لأن المواقف العملية أخطر من الاجتهادات، لكن قد نعذره، فلذلك أشار إلى