[فوائد من قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)]
قال رحمه الله تعالى: [وفي قوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ)) من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها، فإن الشر كامن فيها، لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه، فإن ذلك من السيئات التي أصابته، وهي إنما أصابته بذنوبه، فيرجع إلى الذنوب، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له كل خير، ويندفع عنه كل شر.
ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦ - ٧]، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة.
لكن الذنوب هي لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب، ليس كما يقوله بعض المفسرين: إنه قد هداه فلماذا يسأل الهدى؟! وأن المراد التثبيت، أو مزيد الهداية! بل العبد محتاج إلى أن يعلمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله، وإلى ما يتركه من تفاصيل الأمور في كل يوم، وإلى أن يلهمه أن يعمل ذلك؛ فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله مريداً للعمل بما يعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه ولم يكن مهتدياً، والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريد أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤاله سؤال تثبيت، وهي آخر الرتب.
وبعد ذلك كله هداية أخرى: وهي الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة، ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء، فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر، فقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر الله، وأن الحسنات كلها من الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشكر سبحانه، وأن يستغفره العبد من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك توحيده والتوكل عليه وحده، والشكر له وحده، والاستغفار من الذنوب.
وهذه الأمور كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمعها في الصلاة، كما ثبت عنه في الصحيح: أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: (ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد) فهذا حمد وهو شكر لله تعالى، وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد، ثم يقول بعد ذلك: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
وهذا تحقيق لوحدانيته، لتوحيد الربوبية خلقاً وقدراً وبداية وهداية، هو المعطي المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولتوحيد الإلهية شرعاً وأمراً ونهياً، وهو أن العباد وإن كانوا يعطون جداً -ملكاً وعظمة وبختاً ورياسة- في الظاهر أو في الباطن -كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة- فلا ينفع ذا الجد منك الجد، أي: لا ينجيه ولا يخلصه، ولهذا قال: لا ينفعه منك، ولم يقل: ولا ينفعه عندك؛ لأنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك، لكن قد لا يضره.
فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد، وتحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، فإنه لو قدر أن شيئاً من الأسباب يكون مستقلاً بالمطلوب -وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره- لكان الواجب ألا يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى وهو المستعان وبه المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود؟! فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم ينصرف عنه ضده لم تحصل مشيئته.
والمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف عنه المفسدات.
والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك فهو -مع أن الله يجعل فيه الإرادة والقوة والفعل- فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكاً مطاعاً، ولابد أن يصرف عن الأسباب المتعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع.
وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتض تام، وإن