للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المفاضلة بين طلب العلم والدعوة إلى الله تعالى]

السؤال

أيهما أفضل: طلب العلم والانصراف إليه بالكلية، أم الدعوة إلى الله عز وجل وصرف الوقت في ذلك، أم الأفضل الجمع بين الأمرين؟

الجواب

الصواب أن ينظر في حال الشخص، فإن كان من ذوي الذكاء والفطنة والقدرة على الاستنباط فإنه يجعل وقته لطلب العلم، ومن كان دون ذلك فإنه ينصرف إلى الدعوة والعبادة مع أخذ القدر الكافي من العلم الضروري الذي يحتاجه، وكل ميسر لما خلق له.

وهنا أنبه على أن الناس الآن عندهم نوع من الخلط في التصورات يحتاج إلى التنبيه عليه، ومن ذلك فهم الناس للدعوة، فهذه مسألة ينبغي أن يعنى بها طلاب العلم.

فالمفهوم السائد عند شبابنا للدعوة أنها ممارسة العمل الدعوي العملي فقط، وعلى هذا فإنهم لا يعتبرون طالب العلم المتمسك الذي يعكف على طلب العلم الشرعي، ويعمل بشعائر الدين، ويستقيم في بيته وفي أهله، لا يعتبرونه داعية، وهذا خطأ فادح.

وأنا أعتبر أعظم نموذج للدعوة أن يكون الشاب مكباً على العلم الشرعي، وأن يكون عاملاً بما يعمل، سلوكه على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وملازم للعلماء وطلاب العلم، وأن يكون قدوة فيما يعمل وما يأتي وما يظهر به أمام الناس، وأن يحرص على شعائر الدين الظاهرة، فهذا عندي أكبر داعية، والنصوص على هذا ظاهرة من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وسلوك الصحابة والتابعين.

وكون المسلمين يحتاجون إلى بعض العمل في الدعوة وفي أعمال البر أمر معلوم، لكن لا يعني أن الدعوة تحصر على أعمال البر وعلى الحركة والنشاط، كما هو مفهوم كثير من شباب المسلمين في العالم كله الآن.

فكوننا نتحرك بما نستطيع هذا لا بأس به، لكن أن نحصر الدعوة على العمل النشط فلا، بل هذا وجه من وجوه الدعوة.

وأفضل داعية هو طالب العلم المستمسك الذي يكون قدوة للناس في قوله وعمله وسلوكه، هذا هو أكبر داعية.

والداعية النشط في الدرجة الثانية بعده، أعني النشط في حركته وعمله؛ لأن طالب العلم الذي يكب على العلم هو الذي يشق طريقه إلى الرسوخ في العلم، والذي يكون من أهل الذكر، ويكون مرجع الأمة في الفتوى، ومرجع الأمة في الرأي، ومرجع الأمة في الأنموذج الذي يحتاجه الناس.

ومع ذلك ففي كل الخير، ولا يعني ذلك أنا نشطح ونقول: الدعوة هي هذا العمل فقط، وإنما أقول: هذا أفضل أنموذج للداعية، ومع ذلك فإن الدعوة يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيها أعمال البر، وهذا من أعظم أبواب الدعوة، والمسلمون لو أنهم حصروا الدعوة في معنى واحد لقصروا، وربما أثموا إثماً عظيماً؛ فلا بد من التوازن.

فمن مفهوم الدعوة الضروري الذي يجب أن يلقنه شبابنا اليوم هو ما ذكرته من أن يكون طالب العلم أنموذجاً وقدوة لغيره في علمه وسلوكه، وسيكون أكبر داعية بإذن الله ولو لم يتحرك الحركة التي يفهمها الناس.

ولذلك يجب أن يلتزم الداعية بالنهج السليم وقواعد الشرع، وسمت أهل العلم وهديهم، والبعد عن الأمور التي لا تليق بالدعاة مما يثير الفتن أو يوقع الأمة في الحرج، أو نحو ذلك مما يسلكه بعض الناس هداهم الله من باب الاجتهاد.

فعلى هذا لا بد من تصحيح المفهوم حول الدعوة عند الناس، وإن كنا نجد أن مشايخنا -حفظهم الله- يمثلون النموذج الأمثل للدعاة، وهذا خير قد تقوم به الحجة، ويقوم به البيان، كما أنهم أيضاً يوضحون هذه الأمور، يبينون أن الدعوة ليس المقصود بها فقط ما يفهمه الناس.

وقد فصل الناس بين الداعية والعالم، أو بين الداعية وطالب علم، فيقولون: هذا داعية، وهذا طالب علم، والحق أن طالب العلم هو الداعية، بل إذا لم يكن طالب العلم هو مرجع الداعية وهو قدوته؛ فإن هذا يعني الإنفصام النكد الذي نرى ظواهره الآن.

وعلى هذا فلا بد من تطمين كثير من الشباب الذين نجد عندهم شيئاً من عرض هذه القضايا، خاصة الشباب الصغار في المرحلة الثانوية أو بعض مراحل الجامعة، حيث تجد عند الشاب نوعاً من التوتر؛ لأنه يظن أنه إذا انكب على العمل وانقطع إلى العبادة خرج من كونه داعية فأثم، فتجد عنده شيئاً من التوتر وضيق النفس وضيق الصدر والتوفز والتحفز، يريد أن يخرج من وضعه الذي هو فيه؛ لأنه شعر أنه أنه قاعد حينما بدأ يكب على دروس المشايخ، وبدأ ينصرف إلى شئون أهل بيته، وبدأ يجالس الناس، ويجالس من ليس عندهم حركة ولا نشاط، يظن أنه ترك الدعوة وأنه بذلك وقع في ذنب عظيم، وربما حبط عمله، وهذا خطأ أقول: هذا الذي لاحظته في بعض الشباب، يقول أحدهم: أنا أحتاج إلى علاج.

فما الذي دهاك؟ يقول: كنت فيما مضى أتحرك وأمشي وأذهب في رحلات، والآن شعرت أنه ليس عندي إلا الذهاب إلى دروس المشايخ! فنقول: هذا خير كثير، فقد كنت تسعى في الزمن السابق بدون علم.

والدعوة الصحيحة أولاً تبدأ بالعلم، وأغلب الناس مداركهم وسط، فيجب على من كان كذلك أن يتعلم، ولو تجاوز الثلاثين والأربعين، ثم بعد ذلك يذهب للدعوة، فالأنبياء دعوا في سن كبير وما ضرهم ذلك، وما صارت شخصياتهم -كما يقال- مضطربة أو غير مرباة.

بل إني أقول: إن إغراق الشباب في سن المراهقة وما بعدها بقليل في العمل الدعوي الحرك