[موقف العقل من الشرع هو التسليم والاستسلام]
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام): هذا من باب الاستعارة؛ إذ القدم الحسي لا تثبت إلا على ظهر شيء.
أي: لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه.
روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
وهذا كلام جامع نافع.
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير؛ فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثم اختلف المفتي والدال؛ فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت ودللت عليه؛ شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ].
أظن أن المثل -إن شاء الله- واضح، وخلاصته: أن العقل مع الشرع كالعامي مع العالم، وذلك أمر في نظري أنه بدهي، فإن الشرع هو الذي يسمى علماً، والعقل لا يعدو أن يكون وسيلة للعلم، وليس هناك إنسان يشتمل على العلم دون تعلم ودون تعقل.
إذاً: فالعقل لا يتصور إلا أن يكون وسيلة للعلم، بدليل أن غير العاقل لا يعلم شيئاً، وأن الناس علومهم بقدر عقولهم، ثم إن العقل ليس بذاته يشتمل على العلم، إنما هو -كما قلت- وسيلة إلى العلم، وهذا أمر يدركه كل عاقل، فالعقل نفسه يقول ذلك، فالعاقل لا يولد عالماً، إنما يولد بعقله مستعداً للعلم، وهذا الاستعداد يعتبر وسيلة، فإذا وجد علماً حصله، وإذا لم يجد علماً فلا يمكن لعقله أن يكون عالماً، فالعقل لو لم يجد معلومات ما صار عالماً، ولو لم يجد أيضاً وسائل تعينه -من تفكير وبصر وسمع ولمس وغير ذلك من أنواع الإدراكات- ما استطاع أن يعلم شيئاً.
فالله عز وجل جعل العقل آلة ووسيلة، فإذا كان العقل وسيلة، والشرع والوحي من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يتأتى أن يجهل أحد من الناس هذا الأمر، وهو أن الشرع هو العلم وأن العقل وسيلة، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يتأتى أن تكون الوسيلة أقوى وأقدم وأهم من الأصل نفسه، فتقديم العقل على الشرع عند المتكلمين إنما هو انتكاس في الفطرة ووهم جرهم إليه الفلاسفة، والفلاسفة دائماً إنما يعيشون أوهاماً، فالفلاسفة لا يعيشون عالم الواقع، فالكلام في الواقع لا يعد فلسفة، وإن تجاوز بعض الناس وسماه فلسفة، بل الفلسفة أوهام وخيالات، فلذلك لما خضعوا لهذه الأوهام والخيالات خالفوا البدهيات وقالوا: إن العقل مقدم على الشرع، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنا لا نعرف الشرع إلا بالعقل.
فيقال لهم: الشرع شرع، وهو علم، سواء وجد العقل أم لم يوجد، لكن العقل لا يستطيع أن يدرك بدون الشرع علماً حقيقياً يتوصل به إلى عالم الغيب وإلى أصول الدين وإلى الحق الذي يريده الله عز وجل ويرضاه، فالعقل قد يدرك المدركات في أمور الدنيا ومع ذلك يخطئ فيها ويقع في أخطاء شنيعة قد تهلك البشر، فكيف بأمور الغيب والدين؟! إذاً: فتقديم العقل على الشرع في أمور الدين أمر يعد مناقضاً للعقل السليم ولمقتضي الفطرة، وما هو إلا من خبالات وخيالات الفلاسفة التي تأثر بها المتكلمون.
قال رحمه الله تعالى: [والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره].
يقصد هنا العقل السليم، وإلا فهناك عقول منكوسة قد لا تسلم بالوحي، لكن العقل السليم إذا رزقه الإنسان أدرك بالضرورة أنه يجب التسليم لخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.