[أهمية التسليم للنصوص وترك الخوض فيما يتعلق بالله عز وجل لغير ضرورة]
قال رحمه الله تعالى:[ونحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب تعالى أعظم وأعلى؛ فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة].
هذا الكلام جيد من وجه، يعني: قوله: [نحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه]، بمعنى: لأن نتكلم ونجتهد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل -يعني: هل رآه على حقيقته أو لا، وإن كان هذا أمراً غيبياً- خير لنا من أن نخوض في أمر يتعلق برؤيته لربه عز وجل بغير دليل قاطع، ومعنى هذا: أنه ينبغي أن نسلم بالنصوص التي وردت دون أن نتعدى المعاني المفهومة منها، ولا نخوض في أمر ليس عليه دليل شرعي، وهذا حق، والسلف كانوا عليه، لكن اضطروا لزيادة التفصيل والقول بما لم يرد به الشرع دفعاً لتوهمات وشبهات المتكلمين، فإذا كان لابد للمتكلم من أن يتكلم في أمر غيبي فلأن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بالمخلوقات -كجبريل عليه السلام- خير له من أن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بذات الله عز وجل.
وهذا أصل ينبغي أن يحرص عليه طالب العلم، فلا يلجأ إلى الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأسمائه وأفعاله إلا اضطراراً حينما تلجئه الضرورة العلمية إلى الدفاع عن العقيدة، أو دفع شبهات الناس وما يقولونه.
أما لمجرد العلم، أو لمجرد افتراض الشبهات، أو الترف العلمي فهذا مما لا ينبغي أن يكون، وألا يعني هذا الاتهام لمخافة الله عز وجل، لكن يعني التورع عن الكلام فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وإن لم نفهم النصوص التي وردت -كنصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه- فإنه ينبغي لنا أن نسلم ولا نخوض بأكثر مما نفهمه من ظواهر النصوص، وعلى هذا فإن المتأمل لمجموع نصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج يجد أنها تتجه من خلال مجموعها إلى أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه رؤية قلبية، وأنه رآه بفوائده، ولذلك لما سئلت عائشة: هل رأى ربه؟ استنكرت السؤال؛ لأنها فهمت أن السؤال عن الرؤية العينية، ولا يشكل على هذا إلا الرواية التي ثبتت عن ابن عباس في البخاري وغيره أنه رآه بعينه، ولولا هذه الرواية لما وجد إشكال والله أعلم، ولربما اتفق السلف على أن الرؤية رؤية قلبية.
ومع ذلك فإن الرواية عن ابن عباس مضطربة، فـ ابن عباس ثبت عنه أيضاً عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين، ففسرها بأنها بقلبه، وقد تحمل تلك على هذه، وربما كان مراده -والله أعلم- أنه رأى ذات ربه عز وجل، لا شيئاً آخر فعبر عن الذات بالعين؛ إذ قد يعبر عن الذات بالعين، كما يعبر عن الذات بالوجه.
وفي كلام الشارح وجه آخر لا أحب أن أذكره؛ لتعلقه بأساليب المتكلمين في تقرير الدين، خاصة في تقرير النبوة، وتقرير الوحي.