للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما تحصل به الكرامة للمؤمن عند الله تعالى]

قال رحمه الله تعالى: [(وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن): أي: أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن، وهو الأتقى، والأتقى هو الأكرم، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب)، وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة في نفسها؛ فإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى، ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت, والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:١٥]، فإن استوى الفقير الصابر والغني الشاكر في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله، فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر.

ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر: وهو أن الإيمان نصف صبر ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر وفرعاً من الشكر وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنياً منفقاً متصدقاً باذلاً ماله في وجوه القرب شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله ولأداء العبادات صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم].

هذا فيه رد على المتصوفة ومن نحا نحوهم من الذين يزعمون أن الولاية إنما هي الولاية القلبية، وأنه إذا اجتمعت الولاية الكامنة في القلب فقد يستغني الإنسان عن العمل، وقد يترك طلب الرزق، بل هو أفضل له من السعي في طلبه، ولذلك تركوا طلب العيش، وتركوا الجهاد وغير ذلك، والحقيقة أن الأمر -كما ذكر الشيخ- يرجع إلى نفس الإنسان وما آتاه الله من إيمان ومن تقوى وعمل صالح، فإن كان غنياً وهو محسن في العمل فوظف ماله لدين الله عز وجل وفي عمل الخيرات زاده الغنى خيراً، وإن كان فقيراً وصبر زاده الصبر خيراً، ولذلك نجد من أفاضل هذه الأمة من الفقراء عدداً في جميع مراحل التاريخ، وأولهم الصحابة الكبار، فالعشرة المبشرون بالجنة كان منهم الأغنياء ومنهم الفقراء، وفي عموم المهاجرين الأغنياء والفقراء، وكذلك أهل بيعة الرضوان، وفي كل خير، وكذلك من التابعين وتابعيهم بعد عهد النبوة، نجد -مثلاً- من كبار السلف من اشتهر بالغنى، كـ عبد الله بن المبارك، كان غنياً منفقاً، وكان ينفق على قوافل الجهاد وينفق على قوافل الحج، ومع ذلك كان من العباد الزهاد في الوقت نفسه، ومن الأئمة الصالحين والعلماء الكبار والمحدثين.

ونجد في المقابل الإمام أحمد، فلم يكن غنياً، بل كان ينفر من الدنيا، واعتبر الدنيا محنة أشد عليه من المحنة التي حصلت له في قضية القول بخلق القرآن، وفي كل خير، كل كان إماماً في الدين، فالمسألة مبناها على ما عند الإنسان من التقوى والصلاح والاستقامة.

قال رحمه الله تعالى: [وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم.

ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل: معافىً شاكر أو مريض صابر؟ أو مطاع شاكر أو مهان صابر؟ أو آمن شاكر أو خائف صابر؟ ونحو ذلك].