للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ودليله على إفلاس أهل الكلام]

ثم يقول: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً): والطرق الكلامية هي المسالك التي حاول بها أن يثبت أن طريقة المتكلمين هي الحق، والمناهج الفلسفية: مناهج الفلاسفة، وقد عانى فعلاً، وعايش مناهج الفلاسفة؛ فوافقهم في أشياء وخالفهم في أشياء، لكنه في النهاية ما رآها تشفي العليل، أي: مرض القلب الذي في كثير من الشاكين من المتكلمين، وكذلك لا تروي الراغب والنهم في حب الكلام وأهله.

ذلك أن علم الكلام علم يستهوي صاحبه، فإذا قرأ المبتدئ الذي عنده شيء من الذكاء كتب المتكلمين فإنه في الغالب يعجب وينبهر، ويجد أنه بحاجة إلى أن يصل إلى حقائق ما قالوه، فيشعر بشيء من الاندفاع والتمادي مع الكلام ومع الفلسفات، وتستمر هذه الأمور حتى يظن أنه على الحق أو أنه يكاد يصل إلى الحق، وفي النهاية يجد الطريق مسدوداً.

يقول: (ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن)، وكأنه اكتشفها! وما عرف أن هذا ما عليه أئمة السلف وأئمة الأمة كلها وأهل السنة الذين لم يعانوا من هذه المشكلات ولم يدرسوا علم الكلام ولا وقعوا فيه.

فكأنه ظن أنه بعد معاناته الطويلة اكتشف أن طريقة القرآن هي الطريقة السلمية، فلذلك لم يوفق إلى معرفة تفاصيل الحق مثل السلف، إنما وفق لأن يعرف أن أسلوب القرآن هو الأسلوب السليم فقط، وهو عدم الخوض، والإيمان بالأمور الغيبية بإجمال.

يقول: (أقرأ في الإثبات)، أي إثبات الصفات وإثبات الغيبيات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠]، فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] فيه إثبات الاستواء لله عز وجل، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠] فيه إثبات العلو لله عز وجل.

يقول: (وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠]).

وهذه بدهيات عند عامة أهل السنة، لكنه ما أدركها إلا بعد مرحلة طويلة من عمره وهو في سن الشيخوخة، وإلا فمن البدهي أن الحق إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.

ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)، هذا إن وفق، وإلا فنسأل الله العافية، وألا نجرب مثل هذه التجربة.

لكنَّه يقصد من ابتلي، فإنه إذا سلك هذا المسلك، فبحث عن الحق، ولم يصل إليه، ثم وفق وهدي؛ فسيعرف هذه المعرفة، لكن ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة.

ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة، بل الغالبية من الهالكين، نسأل الله السلامة، ودليل ذلك أن أكثر المتكلمين لم يستفيدوا من قول رائدهم وقائدهم وأولهم وعمدتهم وهو الرازي، ما استفادوا أبداً، مع أنه قال لهم: الطريق مسدود، وأمامكم مهلكة، وأنا قد رأيت ورأيت، إلا أن بعضهم أبى إلا أن يسقط في الهاوية، بل أكثرهم إلى اليوم لم يستفيدوا من هذا الكلام مع إجلالهم للرازي وتقديرهم له، فهم لا يزالون يقررون كتبه التي ندم عليها وتراجع عنها وحذر منها، لا يزالون يعتمدنها في مذهبهم وفي طريقتهم، نسأل الله العافية، ونسأل الله السلامة.