للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كرة ثانية للشارح في دفع القول بحصول الإشهاد استنطاقاً

قال رحمه الله تعالى: [وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه].

الشيخ أبو منصور الماتريدي يعتبر من أكابر المتكلمين الأوائل، وله في تأويلات النصوص مواطن كثيرة معروفة في كتابه التوحيد، وعلى هذا لا نستغرب أن ينصر هذا القول، بل من الطبيعي أن ينصره؛ لأنه يخالف القاعدة العقلية التي يسير عليها المتكلمون في بعض أمور الغيب وفي أفعال الله عز وجل، خاصة الذين ينكرون أفعال الرب، فإن الحديث عندهم لا بد أن يؤول، وإذا أمكنهم أن يردوه ردوه، وإذا ما أمكنهم فلا بد أن يؤولوه، فعلى هذا لا يصح أن يرتبط بأقوال هؤلاء، ولا يعتمد عليها كأقوال يرجح بها؛ لأنهم إنما خالفوا السلف في هذه الأمور وإن وافقوهم في أمور أخرى.

قال رحمه الله تعالى: [ولاشك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:١٣٥].

وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به].

هذا فيه محاولة رد الإشهاد الحقيقي، وهذا أسلوب المتكلمين، وفيه تكلف، والشيخ رحمه الله كان من المتوقع أنه يقف عند قوله: [ولهذا تفطن ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث]، فهذا في الحقيقة أمر ينبغي أن يوقف عنده، فهؤلاء هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وحق لهم أن يهابوا، ولماذا لا نهاب أمر غيبياً أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم إن المسألة ليست مجرد هيبة، بل هي مقتضى الإيمان والتسليم والإذعان لله عز وجل وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإنسان عليه أن يخشى الله عز وجل ويخافه، ويجب أن يسلم ويذعن، ولا شك في أن المسلم لا يجرؤ على أن يقول في الغيب شيئاً، لكن الأمر أكبر من ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟! بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية؛ فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب؛ فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو دين التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه -على الصحيح- حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:٣٨]، وقال ليعقوب بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:١٣٣]، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:٨].

فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:١٧٠].

وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.

فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق.

فإن توحيد الربوبية