الرد على القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة
ٍقال رحمه الله تعالى:[وهذا فاسد؛ فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.
قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك؛ لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث].
هذا الكلام متناقض لا يدخل العقل، فسليم العقل لا يستطيع أن يجمع بين هذا القول وبين قول الجهمية من جانب آخر بامتناع حوادث لا بداية لها ولا نهاية، وهذه المقولة هي التي أوقعت الجهمية في إنكار كثير من أصول الدين، فإنكارهم لأسماء الله وصفاته مبني على هذا، وإنكارهم للرؤية مبني على هذا، بل قولهم بفناء الجنة والنار، وإنكارهم للحسيات أو للسمعيات الثابتة مثل الصراط والميزان ونعيم الجنة المادي -لأنهم يقولون: النعيم نعيم روحي- كل ذلك مبني على هذه المقولة في مسألة الحوادث.
والذين تأثروا بهم وقعوا في بعض ما وقعوا فيه، فالمعتزلة وقعوا في إنكار صفات الله وإنكار بعض السمعيات؛ لأنهم قالوا ببعض مقولات الجهمية، ثم جاء بعدهم المتكلمون وأولوا الصفات وأولوا بعض السمعيات، وقالوا بعض المقولات التي قال بها الجهمية والمعتزلة؛ نظراً لأنهم أخذوا بعض قاعدة الفلسفة حول الحوادث التي سيأتي الكلام عنها بشكل أكثر تفصيلاً.
قال رحمه الله تعالى:[فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء، ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث أو جنس الفعل أو جنس الأحداث أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل.
وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي؛ فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين؛ فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه؛ فإنه يعقل كون الحادث ممكناً ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه].