للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواد الفساد شر من حيث ما تفضي إليه لا من حيث وجودها]

قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال يرد على وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محبا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن.

فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه.

وحركتها -من حيث هي حركة- خير، وإنما تكون شراً بالإضافة، لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية].

يعني: أن الشر شر بآثاره، وبنتائجه والعقوبة عليه، فهو من حيث كون الله عز وجل قدره ليس شراً محضاً، لكن لما انبنى الشر على فعل المكلفين فصار ناتجاً عن تصرفاتهم، أو كان ناتجاً عن أسباب بذلوها فوقع الشر منهم أو عليهم أو على غيرهم؛ صار شر بهذا المعنى.

أما مجرد خلقه وكونه وجد فليس شراً محضاً، فإبليس -مثلاً- ليس هو شراً لذاته، وإنما هو شر حينما عصى الله عز وجل، أما خلقه ووجوده وذاته فهو خلق من خلق الله ما جاء إلا لحكمة، لكنه لما عصى الله عز وجل وقع الشر من فعله، فصار خبيثاً بذاته وبأفعاله.

وكذا الكافر، فالكافر لذاته خلق من خلق الله، فليس وجود الكافر شراً محضاً بذاته، إنما صار شراً بما عمله حينما كلف وأمر فلم يأتمر ولم يعمل بمقتضى التكليف، فصار الشر مضافاً إليه بأذاه، وصار بذاته وبأفعاله وتصرفاته شراً بعد أن نتج عنه الشر، ولذا فالإنسان غير المكلف -حتى أبناء الكفار الذين يعيشون بين ظهرانيهم- ليس هو شراً لذاته، وليس شره كشر الكافر المكلف، فالمجنون وغير المميز لا يكون شره إلا عندما يكلف، فعندما يكلف يكون منه الشر ويحاسب على ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به؛ لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه].

هذا مثل الحدود، فالحدود إقامتها خير، والذي يقيم الحدود يفعل خيراً، لكنها بالنسبة لمن حدثت له قد تكون شراً، بمعنى أنها أذى، فالذي تقطع يده يحدث له شيء من الأذى، والأذى شر، لكن قد تكون العاقبة خيراً له من حيث إنه بذلك تكفر عنه ذنوبه، والفعل الذي فعله الذي أقام الحد هو خير.

إذاً: فالشر والخير نسبيان.

قال رحمه الله تعالى: [فإنه سبحانه لم يخلق شرا محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئا يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير].

يعني: لا ينسب الشر إلى الله مباشرة، ولا يضاف إليه الشر، بل يقال: إن الله خلق هذه الأمور وقدرها، لكن لا ينسب إليه من باب الإضافة.

قال رحمه الله تعالى: [والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً، فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير].