للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ردود على من اعتقد أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس]

قال رحمه الله تعالى: [ويرد قول من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)، واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام].

هنا يناقش القائلين بأن كلام الله تعالى معنى قائم في النفس، وأن هذه الحروف والأصوات التي هي القرآن الكريم الذي بين أيدينا تعبير عن كلام الله عبر به مخلوق، وأحياناً يقولون: هذا المخلوق أصوات وحروف خلقها الله في الكون، فتمثلت أصواتاً سمعها النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل، وأحياناً يقولون: هو معنى ألقاه الله إلى جبريل فعبر عنه وألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقولون بأنه معنى ألقي في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عنه، وكل هذه المعاني باطلة، بل القرآن هو كلام الله عز وجل أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله بالوحي المباشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من جبريل.

قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب].

هذا المفهوم لم يكن محل نقاش عند السلف في القرون الثلاثة الفاضلة إطلاقاً، بل كان من المسلمات؛ لأنهم يفقهون معاني الألفاظ بالعربية، وقد تلقى هذا المعنى وهذا المفهوم عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، وتلقاه التابعون عن الصحابة، إلى أن جاء المتكلمون الذين تأثروا بالفلسفة، فالفلاسفة مذاهبهم في كلام الله عز وجل كثيرة، لكن منها اعتقاد أن كل ما يصدر عن الله عز وجل معان، ومن ذلك كلامه أو ما يعبر عنه بكلامه، وأكثر الفلاسفة لا يؤمنون بالكتب المنزلة، لكن هناك من أتباع الأنبياء من تأثر بالفلاسفة فأخذ بمفهوماتهم حول تفسير الظواهر من حولهم، تفسير ظواهر الحياة، ومن ذلك تفسير الكتب المنزلة على أنها معان أو معقولات تصدر عن مخلوقات، هذا غاية ما عند الفلاسفة، وهذا التصور انتقل إلى المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، فقالوا بأن كلام الله معنى وليس بكلام حقيقي بحرف وصوت، وفرعوا على هذه الفلسفة أشياء كثيرة، ثم انتقلت في منتصف القرن الثالث إلى الكلابية، فأخذوا بها وقالوا بأن كلام الله معنى قائم بالنفس، أو نحو هذا، لما قامت الفرق الكلامية التي توسعت في الكلام -وهي الماتريدية ومتكلمة الأشاعرة وسائر المتكلمين الآخرين الذي قد لا ينتسبون إلى فرقة- قال أغلبهم بهذه المقولة، وما ذلك إلا استجابة لشبهات الفلاسفة ومن تأثر بهم، وهو الآن يرد عليهم بمقتضى اللغة وبمقتضى فهم السلف، وبمقتضى الأحاديث والنصوص الصريحة في تحديد معنى الكلام، وببيان مفهوم الكلام عند السلف، سواء الكلام مطلقاً، أو الكلام المخصص من الأفراد، أو كلام الله عز وجل عموماً، أو كلام الله بالقرآن على وجه الخصوص.

قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!).

فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى، ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر.

ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر؛ فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك].